الرد بالمثل ومبدأ «السيادة».. اختبار جديد للعلاقات الجزائرية الفرنسية

بعد محاولات تقارب عطلتها ملفات الذاكرة، عادت العلاقات بين الجزائر وفرنسا إلى واجهة الأزمة مجددا، إثر تطورات دبلوماسية متسارعة.
وعاد التوتر ليكبل مجددا العلاقات بين فرنسا والجزائر بعد إعلان باريس عن قرار السلطات الجزائرية طرد 12 موظفا في السفارة الفرنسية وتهديدها بالرد على هذه الخطوة في حال الإبقاء عليها.
وجاءت خطوة الجزائر اليوم، ردّ فعل على توقيف فرنسا لأحد موظفي قنصليتها بتهمة التورط في "اختطاف" المعارض الجزائري أمير بوخُرْص المعروف باسم "أمير DZ"، في ضواحي باريس نهاية أبريل/نيسان 2024.
ورغم أن باريس حاولت احتواء الأزمة سابقا، فإن لهجة وزير الخارجية الفرنسي، جان-نويل بارو، جاءت صارمة هذه المرة، إذ صرح قائلاً: "أطلب من السلطات الجزائرية العدول عن هذه الإجراءات غير المرتبطة بالقضية القضائية الجارية. وإذا تمسكت الجزائر بطرد الدبلوماسيين، فلن يكون أمامنا خيار سوى الرد الفوري".
"تصعيد متبادل"؟
وكانت مصادر دبلوماسية قد كشفت لوسائل إعلام فرنسية، أن من بين المطرودين موظفين في وزارة الداخلية الفرنسية، في وقت كان وزير الداخلية برونو ريتايو المعروف بمواقفه المتشددة تجاه الجزائر، يزور المغرب لبحث ملف الهجرة غير النظامية، وهو ملف يؤجج أصلاً الخلافات بين باريس والجزائر.
من جانبه، اعتبر فرنسوا ديبريه، الباحث في مركز "مونتين" الفرنسي للدراسات الاستراتيجية، في حديثه مع "العين الإخبارية"، أن ما يحدث اليوم هو "ثمرة فشل متراكم في إدارة التوازن بين الأمن والدبلوماسية".
وقال ديبريه إن "باريس لم تُحسن تقدير توقيت الملف القضائي. توقيف موظف قنصلي جزائري، حتى لو كان بقرار قضائي مستقل، تزامن مع لحظة هشة من الانفراج السياسي".
مضيفا "الجزائر قرأت ذلك كإهانة مباشرة، وخصوصا أن قصر الإليزيه لم يصدر أي توضيح يطمئن الطرف الجزائري”.
وتابع ديبريه: "نحن أمام اختبار جديد للعلاقات، وإذا لم يتم اللجوء إلى قنوات دبلوماسية هادئة، فإن الرد بالمثل قد يفتح باب التصعيد المتبادل، خصوصا مع عودة الخطابات المتشددة في وزارات باريس، مثل الداخلية".
"سيادة الجزائر خط أحمر"
من جانبه، قال الباحث السياسي الجزائري، مراد كواشي، لـ"العين الإخبارية"، إن بلاده "لم تفعل سوى ممارسة حقها السيادي في الرد".
وأردف"فرنسا كانت تدرك منذ البداية أن توقيف موظف قنصلي ليس أمرًا عاديًا دبلوماسيًا. إنه خرق للأعراف، ولو حصل العكس، لكانت باريس اعتبرت الأمر فضيحة".
وأشار إلى أن "الجزائر بعثت برسالة واضحة مفادها أن أمن مواطنيها فوق كل اعتبار، وأنها لن تقبل بتسييس ملف قانوني ضد أحد ممثليه"، متابعا: "الرد الفرنسي كان متغطرسًا، وكأن باريس تريد فرض رؤيتها دون اعتبار لمبدأ المعاملة بالمثل”.
إلى أين تتجه الأزمة؟
ويشير محللون إلى أن التصعيد الحالي قد يُجهض المساعي الرامية إلى تطبيع العلاقة، ما لم تتحرك الرئاسة الفرنسية سريعًا للتهدئة. خصوصًا وأن ملف الهجرة، والتعاون الأمني في منطقة الساحل، والتعاون الاقتصادي، تبقى جميعها رهن هذه العلاقة المتقلبة.
وفي ظل تلويح باريس بـ"الرد بالمثل"، تبقى الأيام المقبلة حبلى بالمفاجآت، وقد تكون حاسمة في إعادة رسم خارطة العلاقات بين البلدين، وفق المحللين.
بوخُرص... شرارة التوتر
وتعود جذور الأزمة إلى السبت الماضي، حين أوقفت السلطات الفرنسية موظفا في القنصلية الجزائرية، ووجهت إليه تهما تتعلق بالمشاركة في اختطاف المعارض "أمير DZ"، المقيم في فرنسا منذ 2016، والحاصل على حق اللجوء السياسي عام 2023.
وتتهم الجزائر أمير "بوخُرْص" بارتكاب جرائم احتيال و”جرائم إرهابية”، وقد أصدرت بحقه تسعة مذكرات توقيف دولية. غير أن القضاء الفرنسي رفض عام 2022 طلب الجزائر تسليمه.
ووجهت النيابة العامة لمكافحة الإرهاب في فرنسا، الجمعة الماضية، اتهامات إلى ثلاثة أشخاص، بينهم الموظف القنصلي، بالتورط في الاختطاف والاحتجاز، وهو ما وصفته الجزائر بأنه “تطور غير مقبول وسيُلحق ضررًا بالغًا بالعلاقات بين البلدين”.
وقبل أيام فقط من هذه الأزمة، أعلن وزير الخارجية الفرنسي، من الجزائر، عن "مرحلة جديدة" في العلاقات بين البلدين، بعد لقائه نظيره الجزائري أحمد عطاف والرئيس عبد المجيد تبون.
كما أن اتصالاً هاتفيًا جرى مؤخرًا بين الرئيسين عبدالمجيد تبون وإيمانويل ماكرون، أثار آمالًا بفتح صفحة جديدة.
لكن هذا "الدفء الدبلوماسي" لم يصمد كثيرا. فقد فجّر الملف الأمني، مجددا، الخلافات العميقة.