يوم وطني لـ"الذاكرة" بالجزائر.. ورسائل "حزم وتقرب" من تبون لماكرون
احتفلت الجزائر، السبت، للمرة الأولى منذ استقلالها قبل 59 عاماً بـ"اليوم الوطني للذاكرة" تزامناً مع حالة التوتر في علاقاتها مع باريس.
جاء ذلك بعد "قرار رئاسي" بجعل ذكرى مجازر 8 مايو/أيار 1945 التي اقترفها الاحتلال الفرنسي ضد الجزائريين "يوماً وطنياً للذاكرة" وهي المجزرة الدامية التي يمر عليها هذا العام 76 سنة.
- 18 مليار دولار سنويا.. ثمن خروج فرنسا من "جنة الجزائر"
- بعد "فيتو الاعتذار".. ما مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية؟
وكانت الاحتفالات الأولى من نوعها بهذا اليوم الوطني الجديد في الجزائر على مختلف الأصعدة الرسمية والشعبية، أجمعت على "رفض نسيانها ذاكرة الجزائريين" ومطالبتها فرنسا بالاعتراف والاعتذار عن تلك المجازر، وكانت مشابهة لاحتفالات الجزائر بعيد استقلالها (5 يوليو/تموز) وذكرى اندلاع الثورة (1 نوفمبر/تشرين الثاني).
محرقة استعمارية
ويصطلح في الجزائر وفرنسا من قبل المؤرخين في البلدين على وصف مجازر الـ8 من مايو 1945 بـ"المحرقة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر"، والتي راح ضحيتها 45 ألف جزائري خرجوا مطالبين سلطات الاحتلال باستقلال بلادهم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ومرت السبت الذكرى الـ76 على مجازر الثامن مايو/أيار 1945، إحدى أكبر وأبشع المجازر الجماعية التي اقترفها الاحتلال الفرنسي في الجزائر، وراح ضحيتها 45 ألف شهيد، بعد مظاهرات حاشدة أكدت رغبة وإلحاح الجزائريين في الاستقلال عن فرنسا.
لكن شهادات الناجين من تلك المجزرة أكدت أن المحتل الفرنسي تفنن في تلك المجزرة، وشن حملة إبادة جماعية وتنكيل بالجزائريين من خلال القتل العشوائي ورميهم من الجسور وانتهاك الأعراض ونهب الأرزاق وحل الأحزاب والحركات السياسية وفرض الأحكام العرفية.
وهي المجزرة التي جند فيها قواته البرية والبحرية والجوية، ولم يرحم فيها الشيخ المسن ولا النساء ولا حتى الأطفال، إلى درجة قيام سلطات الاحتلال الفرنسي "اشعال الأفران وحرق الجزائريين فيها" بحسب شهادات موثقة، وهي الحادثة التي شهدتها خاصة مدينة ڤالمة (537 كم شرق العامة الجزائر)، بطلب من حاكم المدينة آنذاك، آندري أشياري، الذي أمر المستوطنين الفرنسيين بالانتقام من الجزائريين.
وبدأت الأحداث الدامية بعد خروج آلاف الجزائريين في عدة محافظات خصوصاً في خراطة وسطيف وقالمة وسوق أهراس والمسيلة (شرق) للمطالبة باستقلال بلادهم عن فرنسا، قبل أن يقوم الاحتلال الفرنسي بقمع تلك المظاهرات بوحشية.
وبعد توسع رقعة مظاهرات الجزائريين، لجأ الاحتلال الفرنسي إلى "أسلوب القتل الجماعي"، وبقواته البرية والجوية والبحرية دمر قرى ومداشر بأكملها، ما أدى إلى سقوط 45 ألف شهيد وفق إحصائيات يقول الباحثون إنها ليست دقيقة.
ويذهب مؤرخون جزائريون إلى التأكيد على أن عدد ضحايا مجازر 8 مايو/أيار تجاوز ذلك بكثير، وقدروا عدد الشهداء في ذلك اليوم بين 50 ألف و70 ألف شهيد.
عدم التنازل
الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون جدد موقف بلاده "الرافض للتنازل عن معالجة ملفات الذاكرة"، وربط مستقبل و"جودة" العلاقات بين بلاده وفرنسا بـ"مراعاة التاريخ ومعالجة ملفات الذاكرة التي لا يمكن بأي حال أن يتم التنازل عنها مهما كانت المسوغات".
وفي رسالة وجهها للجزائريين بمناسبة الذكرى الـ76 لمجازر الـ8 مايو/أيار، حصلت "العين الإخبارية" على نسخة منها، حدد تبون "أرضية جديدة" لعلاقات "ذات جودة" مع مستعمر الأمس، وربطها بـ"معالجة الذاكرة بجدية ورزانة"، رغم تأكيده على أن الشعبان الجزائري والفرنسي "يتطلعان لتحقيق قفزة نوعية نحو مستقبل أفضل".
تبون وصف تلك الأحداث الدامية بـ"رمز التضحية والفداء والمنعطف الحاسم في كشف حقيقة الاستعمار".
وكانت للرئيس الجزائري في رسالته "رسائل تقرب" وأخرى "مشفرة" لصناع القرار في باريس، عندما أشار إلى أن إحياء هذه الذكرى "يجب أن نشير معه جودة العلاقات مع جمهورية فرنسا".
غير أنه أتبعها بـ"شروط لتطبيع العلاقات" بين البلدين، حددها في "ورشات مفتوحة مازالت كمواصلة استرجاع جماجم شهدائنا الأبرار، وملف المفقودين واسترجاع الأرشيف وتعويض ضحايا التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية".
وأكد على أنه "إذا كان النظر إلى المستقبل الواعد يعتبر الحلقة الأهم في توطيد وتثمين أواصر العلاقة بين الأمم، فإن هذا المستقبل يجب أن يكون أساسه صلباً خالياً من أي شوائب".
وشدد على أن بلاده "مصمّمة دوماً على تجاوز كلّ العقبات وتذليل كل الصعوبات نحو مستقبل أفضل، وتعزيز الشراكة الاستثنائية، لترتقي علاقاتها إلى المستوى الاستراتيجي إذا ما تهيأت الظروف الملائمة لذلك، ومعالجة كل ملفات الذاكرة بجدّية ورصانة وتنقيتها من الرّواسب الاستعمارية، فالشعبان يتطلعان إلى تحقيق قفزة نوعية نحو مستقبل أفضل تسوده الثقة والتفاهم، ويعود بالفائدة عليهما في إطار الاحترام المتبادل والتكافؤ الذي تحفظ فيه مصالـح البلدين".
خطوة فرنسية "مفاجأة"
في مقابل ذلك، سجلت احتفالات الجزائر بذكرى مجازر الـ8 مايو/أيار خطوة فرنسية "مفاجأة وغير متوقعة".
حيث قام السفير الفرنسي فرانسوا غويات بزيارة مفاجأة إلى مدينة سطيف التي سُجل بها أكبر ضحايا المجزرة، وشارك في الاحتفالات الرسمية المخلدة للذكرى الأليمة ووضع إكليلاً من الزهور على ضريح الشهيد بوزيد سعال الذي كان أول شهيد في تلك الأحداث.
وأكدت وسائل الإعلام الفرنسية بأن خطوة السفير جاءت بناء على "أوامر" من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بينما اعتبرت وسائل إعلام جزائرية بأنها "اعتراف فرنسي رسمي بتلك المجازر" أو "تمهيد لاعترافها بها".
اهتمام شعبي
ورغم اهتمام الجزائريين بشهر رمضان والتحضير لعيد الفطر، إلا أن جميع محافظات البلاد شهدت مشاركة شعبية واسعة ومفاجأة أيضا في الاحتفالات الأولى بـ"الذاكرة".
وبرزت ولاية سطيف الواقعة شرق البلاد بمسيرة حاشدة شارك فيها المئات جابت مختلف شوارع المدينة لإحياء ذكرى المجزرة الاستعمارية، رفعوا خلالها لافتات تطالب فرنسا بالاعتراف والاعتذار عن جريمة 8 مايو/أيار 1945.
كما قام شباب من المدينة بملحمة تمثيلية حاكت قيام قوات الاحتلال الفرنسي بقمع المتظاهرين واستشهاد المتظاهرين أعادت للأذهان تلك المجازر الدامية.
والشهر الماضي، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، رغبة بلاده في مصالحة الذاكرة التاريخية بين الفرنسيين والجزائريين.
وقال ماكرون، خلال حوار مع صحيفة "لوفيجارو"، إنه: "أعتقد أن هذه الرغبة مشتركة بشكل كبير، خاصة مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، صحيح أن عليه أن يأخذ في الحسبان بعض الرفض".