أزمة غير مسبوقة بين الجزائر ومالي.. «سحابة صيف» أم «إعصار»؟
أزمة دبلوماسية حادة شابت العلاقات بين الجزائر ومالي مؤخرا، اتخذت إثرها الدولتان إجراءات غير معتادة في علاقتهما الثنائية.
فقد قامت مالي باستدعاء السفير الجزائري لديها في 20 ديسمبر/كانون الأول الجاري، احتجاجا على ما وصفته بأنه تدخل جزائري في شؤونها الداخلية، عقب استضافة مسؤولين جزائريين بعض الانفصاليين الطوارق دون إشراك السلطات المالية، وذلك قبل أن تستدعي الجزائر هي الأخرى السفير المالي لديها للرد على الاتهامات المالية.
ماذا قالت الجزائر؟
الجزائر من جانبها علقت على اللقاءات مع قادة الطوارق، موضحة أنها تتناسب تماما مع جهودها لدعم الاتفاق والمساعدة في إحلال السلام بمالي.
وكان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون قد استقبل في الجزائر العاصمة رجل دين مالي نافذ هو الإمام محمود ديكو، وهو معروف بانتقاده الدائم باستمرار الجيش في الحكم في بلاده.
وتعتبر السلطات في مالي الطوارق حركة مناهضة للنظام العسكري الجديد في شمال البلاد.
مبالغة في رد الفعل
ويرى مراقبون أن تصعيد السلطات الانتقالية في باماكو رد فعل مبالغ فيه تجاه الجزائر، خاصة أن الأخيرة تعد الراعي الرئيسي لاتفاق السلام المبرم بين الحكومة المالية والحركات المسلحة في شمال البلاد في عام 2015، وتقوم بمتابعة تنفيذ بنوده على مدار السنوات الثماني الماضية، وهو ما يثير شكوكهم حول أسباب ودوافع إقدام باماكو على هذه الخطوة التصعيدية.
وما زاد الأمر سوءا بحسب بعض المراقبين هو تبادل وسائل الإعلام في البلدين الاتهامات لحد وصف الإعلام الجزائري رئيس المجلس الانتقالي الحاكم في مالي أوسيمي غويتا بالانقلابي الدموي، وهو ما دفع بالبعض إلى التكهن بتداعيات سلبية محتملة على علاقة الطرفين قد تؤدي إلى تأثر النفوذ الجزائري في الساحل الذي تُعتبر مالي بوابته الاستراتيجية.
أسباب التصعيد
محمد أغ إسماعيل، أستاذ العلوم السياسية بجامعة باماكو، لخص من جانبه أسباب التصعيد المعلنة بين الجزائر ومالي، في التعطيل المستمر منذ أشهر لعملية السلم والمصالحة المنبثقة عن مسار الجزائر بين بماكو والحركات الأزوادية، على الرغم من جهود ودعوات الجزائر كقائدة للوساطة الدولية لاستئناف الحوار.
وقال إسماعيل لـ"العين الإخبارية" إنه "يرجع السبب في سوء العلاقات أيضا إلى زيارة الإمام محمود ديكو للجزائر الذي تعتبره باماكو شخصية معارضة للنظام الانتقالي، على الرغم من أن استضافة الجزائر بعض قيادات الحركات الأزوادية تأتي في إطار السعي لاستئناف الحوار بين الفرقاء الماليين".
وأضاف أن "باماكو ودول التحالف الساحلي بقيادتها تتوجه نحو موانئ الصحراء الغربية في المغرب على حساب الجزائر، مما يشير إلى تفضيل المغرب كشريك".
وعلى الرغم من أن المحلل المالي يرى أن هناك أسبابا أخرى غير معلنة لهذا التصعيد، إلا أنه أعرب عن اعتقاده أن قيادة البلدين ستجد حلا وسطيا سريعا لعودة المياه إلى مجراها الطبيعي، لأنها واعية بأن التصعيد لا يخدم مصالح الشعبين المجبرين بالعيش معا بحكم الجغرافيا والتاريخ والترابط المجتمعي.
وقال إن "الغريب في الأمر أن باماكو تؤكد تمسكها بالاتفاق رغم طرد الإطار الاستراتيجي الدائم من مدينة كيدال وقتل بعض قادتها العسكريين، ولا تريد أن تستقبلهم الجزائر"
وتساءل قائلا "ماذا تقصد باماكو من تكرار التأكيد بالالتزام بالاتفاق ومع من إذن؟ ولا ننسى أن الجزائر كانت قبل أسابيع من المؤيدين الأساسيين لباماكو، ولا أعتقد أن باماكو لم تعد تريد الاتفاق الذي ترعاه الجزائر، ولا تريد أية إملاءات من الوساطة الدولية".
وأضاف أن "الجزائر كانت تاريخيا ولا تزال رسميا هي الضامن للسلام في مالي، وأن الدولتين تشتركان بأكثر من 1000 كيلومتر من الحدود". مؤكدا أن الحل الأمثل بين البلدين في التعاون وليس التنافس.
وشدد على أن الجزائر ومالي ليس من مصلحتهما الاستمرار في الخلفات، لأن تداعيات ذلك خطيرة على الشعبين، علاوة على أن ولايات شمال مالي تعتمد معيشيا على الجزائر، مشيرا إلى البنزين في غاوو بمالي ليصل إلى 3000 فرنك سيفا (عملة غرب أفريقيا) للمرة الأولى تاريخيا، وذلك بسبب التصعيد مع الجزائر، وغلق الحدود مع النيجر من قبل داعش.
وأشار إلى أن الطريق البري والنهري بين باماكو والولاية مغلق منذ أغسطس/آب الماضي من قبل تنظيم النصرة الإرهابي، وأن الولاية شبه محاصرة.
وقال "لا ننسى أيضا أن باماكو تشعر اليوم بالقوة وتدير تحالف الساحل الجديد والذي يضم النيجر وبوركينا فاسو، لكن لا أعتقد أن التصعيد سيمتد إلى دول الساحل مع الجزائر، لأن النيجر تعيش اليوم بفضل الحدود المفتوحة مع الجزائر، في ظل العقوبات التي تفرضها عليها المنظمة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس)".
أسباب مباشرة وغير مباشرة
من جهته، أكد الدكتور توفيق بوقاعدة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، أن العلاقات الجزائرية المالية كانت دائما عبر تاريخ استقلال الدولتين تتميز بالتعاون وحسن الجوار واحترام متبادل.
وقال بوقاعدة لـ"العين الإخبارية" إنه "كان للجزائر أدوار متعددة في تعزيز السلم والمصالحة بين الفرقاء الماليين، إضافة إلى إسهام الجزائر في مساعدة الشعب المالي في مختلف الأزمات سواء الأمنية أو الطبيعية، علاوة على استضافة آلاف الطلبة في مختلف التخصصات، وهم الآن في شتى مراكز المسؤولية بالحكومة والجيش".
واعتبر أن ما شهدته العلاقة بين الدولتين من توتر خلال الأسبوع الماضي له أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة.
وأوضح أن الأسباب غير المباشرة من بينها التحولات في هرم السلطة في مالي عن طريق انقلاب عسكري قبلت به الجزائر على مضض، خوفا من الانعكاسات السلبية وزيادة التوتر أكثر بين الفرقاء السياسيين والعسكريين، وتدهور الوضع الأمني في البلاد.
وقال إنه "استمر التواصل مع الحكام الجدد بعد أن أبدوا هؤلاء التزاماهم بمختلف تعاقدات مالي الدولية، والتزامها بتطبيق اتفاق السلم والمصالحة المبرم سنة 2015".
وأضاف أن "السبب الثاني هو النزعة الجديدة للسلطة الحاكمة في فرض الأمر الواقع بالقوة وتجاوز كل الأطر التعاقدية الدولية، كان بداية بطرد القوات الفرنسية ثم الأممية من البلاد، إضافة إلى الحلف الذي تم تشكيله عقب أزمة النيجر بين كل من بوركينا فاسو والنيجر ومالي للدفاع المشترك".
وأشار إلى أنه من الأسباب غير المباشرة أيضا عدم الاهتمام الدولي بالأزمة المالية بعد اندلاع حرب أوكرانيا وحرب إسرائيل على غزة، وهو الأمر الذي رأته السلطات في مالي فرصة مناسبة للتنصل من كل الالتزامات السابقة داخليا ودوليا والتأسيس لواقع جديد يعزز من سلطة الحكم والتحالف مع جهات دولية توافقها مسارها الجديد تحت شعار محاربة الغرب في مالي وعموم منطقة الساحل.
خطأ بروتوكولي
وأشار بوقاعدة إلى أنه لم تبق للسلطة الحاكمة في مالي إلا الجزائر التي ظلت تهتم وتتابع ما يحدث في مالي بكثير من القلق والتوجس من توجهات السلطة هناك.
وقال إنه "من الأسباب المباشرة للأزمة هو تجدد القتال بين الجيش والفصائل المعارضة في الشمال"، مشيرا إلى أن الجزائر حاولت التوسط باعتبارها رئيسة الوساطة الدولية لتطبيق اتفاق المصالحة في مالي.
وأضاف تم بالفعل الاتصال بالفصائل وقياداتها من أجل عدم الانجرار للحرب والاعتماد على الجهود الدبلوماسية بدل العسكرية، وهو السبب الذي رأته مالي مناسبا للتنصل نهائيا من اتفاق المصالحة.
واعتبر أن الدبلوماسية الجزائرية ارتكبت خطأ برتوكوليا في عدم إخطار الجهات الحاكمة في مالي بهذه الاتصالات، مؤكدا أن الأمر لم يكن بسوء نية كما يروج الإعلام في مالي، وإنما نابع من المهام الموكلة للجزائر بنص الاتفاق.
مآلات التصعيد
وعن مآلات الخلاف بين البلدين، أعرب بوقاعدة عن اعتقاده أن هناك جهودا تبذل من أجل تصحيح سوء التفاهم والتقدير بين الطرفين وإعادة بعث جهود الجزائر للمصالحة بين الفرقاء في مالي.
وقال إنه "بالتأكيد المهمة ليست سهلة، خاصة بعد إصرار الحكومة في مالي على إنهاء اتفاق الجزائر، لأنه لم يعد يستجيب لمعطيات الواقع الجديد، كما تراه".
وأضاف أن "كل طرف بحاجة للآخر، ولا يمكن للقيادة في مالي تحقيق السلم عن طريق القوة في منطقة الشمال بسبب ضعف الجيش المالي، وغياب أي داعم قوي له لتحقيق ذلك، بالإضافة إلى استمرار قوى خارجية لسوء الأوضاع وتسليح المعارضة من أجل استمرار استنزاف الموارد الطبيعية والمالية، وإجبارهم على الرضوخ لمطالب هذه القوى خاصة فرنسا، والعودة مجددا بقواتها لمالي لتحقيق ما كانت تدعيه بمحاربة الإرهاب".
وأشار إلى زيادة التوتر في دول الجوار وزيادة نشاط الحركات الإرهابية التي تستغل حالة غياب السلطة المركزية على طول شريط دول الساحل ووسط أفريقيا من السودان إلى موريتانيا.
وقال إن "كل هذه الأمور وعناصر أخرى تضغط على حكومة مالي وتمنعها من تحقيق توجهاتها الجديدة، وبالتالي هي مجبرة للعودة إلى المجتمع الدولي لمساعدتها في محاربة الإرهاب، وتحقيق المصالحة مع الطوارق في الشمال، ونفس الأمر بالنسبة للجزائر، فهي لا يمكنها الإبقاء على حالة التوتر في حدودها الجنوبية، وزيادة نشاط الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة اللذين يشكلان لها عبئا وخطرا أمنيا محققا".
وأكد أن الجزائر في حاجة إلى الإبقاء على التواصل بالحكومة المركزية رغم اختلاف وجهات النظر حول اتفاق الجزائر ومصيره، موضحا أن الجزائر تمتلك أوراق ضغط على مالي ستعمل على استخدامها من أجل الحد من النزعة الانتقامية لمعارضة الشمال للحكام الجدد، موضحا أن أوراق الضغط الجزائرية تتنوع بين اجتماعية والتقاطعات القبلية أو اقتصادية ودبلوماسية.
تهدئة الوضع
واستبعد الخبير الجزائري تصعيد الخلاف بين الجزائر ودول الساحل الأفريقي، وقال "لا أتصور أن النزاع سوف يمتد إلى الجوار، رغم وجود كل مبررات امتداده، والسبب أن الجميع سوف يعمل على المسارعة إلى تهدئة الوضع خاصة النيجر التي تخشى أن تمتد النزعة الانفصالية للطوارق إلى أراضيها، أو تكون أراضيها جزءا من أرض المعركة مع حكومة مالي".
وقال "لكن ما لم تقرأه حكومة مالي لمجمل الأخطار التي تترصدها وراء غرور القوة المزعومة لديها".
خلاف عابر
يذكر أن الجزائر تستضيف منذ عدة أيام قادة عدد من الحركات المسلحة في شمال مالي.
كما استقبل الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون الإمام محمود ديكو، وهو شخصية دينية لها نفوذ سياسي واسع في مالي، وسبق أن قاد عدة وساطات لتسوية بعض أزمات مالي، ولكنّ علاقته بالسلطات الحالية في باماكو ليست في أحسن أحوالها.
وأدلى الإمام ديكو بتصريحات للإذاعة الجزائرية الرسمية، أشاد فيها بوقوف الجزائر إلى جانب مالي في كل المراحل والأزمات.