"العين الإخبارية" ترصد المراحل الانتقالية التي مرت بها الجزائر
الجزائر تمر بثلاث مراحل انتقالية في تاريخها، الأولى بعد وفاة بومدين، والثانية في التسعينيات، والثالثة التي تعيشها اليوم.
تعيش الجزائر منذ شهر فبراير/شباط الماضي على وقع مخاض سياسي جديد، على خلفية المظاهرات الشعبية السلمية؛ احتجاجاً على ترشح الرئيس المنتهية ولايته عبدالعزيز بوتفليقة لفترة رئاسية خامسة، تواصلت مع رفض "التمديد" للرابعة، بعد أن قرر بوتفليقة العدول عن التقدم لخمس سنوات جديدة تضاف إلى العشرين سنة التي حكم فيها البلاد.
- احتجاجات الجزائر.. من شرارة أكتوبر 1988 إلى حراك مارس 2019
- انتخابات الجزائر.. الحراك الشعبي و"الاختيار الصعب"
شهر كان كافياً لإعلان السلطات الجزائرية الدخول في مرحلة انتقالية جديدة في عمر الجزائر، لتكون الثالثة منذ استقلال الجزائر عام 1962.
في هذا التقرير، ترصد "العين الإخبارية" المراحل الانتقالية الثلاث التي مرت بها الجزائر، كانت اثنتان منها بمثابة المنعرج الحاسم في تاريخ هذا البلد العربي المؤثر والمتأثر بمحيطه الإقليمي والدولي.
المرحلة الانتقالية الأولى
كانت الأقصر مدة والأقل خطورة على وضع الجزائر السياسي، وتزامن ذلك مع وفاة الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين في 28 ديسمبر/كانون الأول 1978.
بعد إعلان وفاة الرئيس بومدين، تولى رابح بيطاط رئاسة البلاد بالنيابة لمدة 45 يوماً، وفق دستور 1976 الذي أقره الرئيس الجزائري هواري بومدين.
كان خلالها رابح بيطاط رئيساً للمجلس الشعبي الوطني (البرلمان) منذ مارس/آذار 1977؛ حيث خوّل دستور 1976 رئيس البرلمان الجزائري خلافة رئيس البلاد في حال شغور المنصب لأسباب الوفاة أو العجز أو الاستقالة.
تولى الراحل بيطاط رئاسة الجزائر مؤقتاً لمدة 45 يوماً، ليسلم السلطة للرئيس الجديد المنتخب الشاذلي بن جديد في فبراير/شباط 1979، وانتهت معها أول مرحلة انتقالية في تاريخ الجزائر الحديث، وبقي رابح بيطاط رئيساً للبرلمان الجزائري إلى غاية استقالته في 2 أكتوبر/تشرين الأول 1990.
المرحلة الانتقالية الثانية
شكلت هذه المرحلة أخطر فترة في تاريخ الجزائر، انهارت خلالها مؤسسات الدولة ومعها اقتصاد البلاد، ودخلت البلاد في أسوأ أزمة أمنية وسياسية واقتصادية.
ورث خلالها الرئيس السابق اليامين زروال وضعاً أمنياً كارثياً وديوناً خارجية أثقلت ما تبقى من اقتصاد البلد، وخزينة شبه فارغة، قال زروال حينها إن "البلاد تسير بـ 4 مليارات دولار فقط".
بدأت هذه الفترة الحرجة من تاريخ الجزائر بعد صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ الإخوانية إلى مسرح الأحداث في الجزائر عقب فوزها بأغلبية المقاعد في المجالس المحلية والبرلمان، تخللها وأعقبها خطاب متطرف و"مُكفر" لكل من يخالفها الرأي أو التوجه.
وبعد اعتصامات في شوارع الجزائر وعصيان مدني شل البلاد، أعلن "علي بلحاج" أحد قادة الجبهة الإخوانية في تجمع شعبي "عدم اعترافهم بالديمقراطية عند توليهم حكم الجزائر" وبأنهم "سيعلنون قيام دولة إسلامية عقب حكمهم لها"، بعد أن حققوا مرادهم بصناديق الاقتراع، وهددوا "بحمل السلاح ضد الجيش وقوات الأمن إن وقفت في طريق مخططهم"، رغم تأكيدات جزائريين شاركوا في تنظيم تشريعيات يناير/كانون الثاني 1992، بأن فوز الجبهة الإخوانية كان "وهمياً".
ونتج الفوز الوهمي للجبهة التي صنفتها الجزائر فيما بعد منظمة إرهابية، عقب "حدوث عمليات تزوير واسعة النطاق في مختلف المحافظات الجزائرية من قبل أتباع الجبهة الإخوانية، واستعملوا في ذلك التهديد بالسلاح في كثير من مكاتب التصويت للمواطنين للتصويت على مرشحيها".
اتضحت معالم أجندة الجبهة الإخوانية الإرهابية أو كما يسميها جزائريون "جبهة الشر" بعد أن قدّم بعض أتباعها شهادات لوسائل إعلام حكومية أكدت "أن تأسيس الجناح السياسي للجبهة الإسلامية للإنقاذ كان بجناح عسكري أيضاً في الجبال، متلقياً الدعم العسكري والمالي من جهات خارجية، ومنتظراً ساعة الصفر للاستيلاء على الحكم في البلاد".
في 11 يناير/كانون الثاني 1992 أعلن الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد استقالته، وأعلن الجيش الجزائري إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية، وفرض حالة الطوارئ في البلاد بعد تصاعد الخطاب العدائي للجبهة الإسلامية للإنقاذ تجاه مؤسسات الدولة.
وبالموازاة مع ذلك، قرر الجيش الجزائري حل البرلمان الذي كان رئيسه عبدالعزيز بلخادم طبقاً للدستور الجزائري المخول لرئاسة البلاد مؤقتاً، غير أن صحفاً جزائرية ذكرت حينها أن "قادة الجيش الجزائري رفضوا أن يتولى بلخادم رئاسة البلاد مؤقتاً".
دخلت البلاد في خضم تلك الأحداث في مرحلة انتقالية "تلقائياً"، وفي فراغ دستوري خطر لم يسبق وأن عاشته، دولة "بدون رئيس أو برلمان".
قررت قيادة الجيش الجزائري في 16 يناير/كانون الثاني تشكيل "مجلس أعلى للدولة" يتولى مهمة تسيير شؤون الجزائر في مرحلة انتقالية، مكونة من خمسة أعضاء وهم: رئيسه محمد بوضياف، ووزير الدفاع آنذاك خالد نزار، وعلي كافي، وعلي هارون، والتيجاني هدام.
استنجد خلالها الجيش الجزائري بالمناضل السابق في الثورة التحريرية محمد بوضياف، وعاد إلى الجزائر بعد 28 سنة من المنفى الاختياري بالمغرب، وقال كلمته المشهورة "جئتكم اليوم لإنقاذكم وإنقاذ الجزائر، وأستعد بكل ما أوتيت من قوة وصلاحية أن ألغي الفساد وأحارب الرشوة والمحسوبية وأهلها، وأحقق العدالة الاجتماعية من خلال مساعدتكم ومساندتكم التي هي سر وجودي بينكم اليوم وغايتي التي تمنيتها دائماً".
كانت مهمة محمد بوضياف شاقة وصعبة، وكلفه ذلك حياته بعد أن تم اغتياله بمحافظة عنابة (شرق الجزائر) في ظروف غامضة في 29 يونيو 1992، قالت قيادة الجيش الجزائري حينها "إن من اغتاله هو حارسه الشخصي والعقيد في الجيش مبارك بومعرافي".
تولى علي كافي رئاسة المجلس حتى 31 يناير/كانون الثاني 1994، بعد عقد ندوة "الوفاق الوطني" التي جمعت مختلف التشكيلات السياسية والتي أقرت تعيين وزير الدفاع اليامين زروال رئيساً للدولة.
دعا زروال بعدها إلى أول انتخابات رئاسية تعددية في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1995، حقق خلالها فوزاً ساحقاً، وبدأت معها نهاية ثاني وأخطر مرحلة انتقالية في تاريخ الجزائر، بعد أن شرعت السلطات الجزائرية في إعادة إحياء مؤسسات الدولة، وجرت انتخابات تشريعية ومحلية عام 1997، وإن بقي الوضع الأمني والاقتصادي متردياً.
خلال فترة حكمه، أقر الرئيس الجزائري السابق اليامين زروال "قانون الرحمة" الذي مهد الطريق أمام وضع مئات الإرهابيين أسلحتهم واستسلامهم للجيش الجزائري، واتبع زروال مقاربة سياسية وأمنية، اعتمدت على "سيف الحجاج واقتلاع الإرهاب من جذوره"، والحوار مع كل التشكيلات السياسية والمعارضة.
وضع زروال الأسس الأولى لسياسة الحوار في البلاد ولقانون المصالحة الوطنية الذي طُبق في عهد الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة مع قانون المصالحة الوطنية، وكان خلالها زروال "أول رئيس في العالم يصعد إلى الجبل دون سلاح برفقة جنرالين في الجيش" للتفاوض مع قادة "جيش الجبهة الإرهابي".
وفي 11 سبتمبر/أيلول 1998 ألقى زروال خطاباً أعلن فيه قراره تقليص ولايته الرئاسية، والدعوة لإجراء انتخابات رئاسية في 27 أبريل/نيسان 1999، سلم خلالها مقاليد الحكم للرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة، في مشهد لم يسبق وأن شهدته الجزائر.
المرحلة الانتقالية الثالثة
في 12 مارس/آذار الماضي، أعلن الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة عن دخول البلاد في مرحلة انتقالية جديدة عقب الحراك الشعبي المناهض لترشحه لولاية خامسة، بعد عشرين سنة من حكمه للجزائر.
قرارات بوتفليقة تزامنت مع أضخم حراك شعبي شهدته الجزائر منذ استقلالها، خرج خلاله مئات آلاف الجزائريين في مظاهرات عبر جميع محافظات البلاد، رافضين رغبته الاستمرار خمس سنوات أخرى في حكم الجزائر، ما دفع بوتفليقة إلى التراجع عن الترشح، وقرر البقاء في الحكم حتى انتهاء ندوة الحوار الوطني من أعمالها.
لم يقدم بوتفليقة أجندة زمنية لخارطة الطريق التي وضعها للمرحلة الانتقالية الجديدة، وهو ما طرح "إشكالاً دستورياً" بحسب القانونيين عن "دستورية القرارات وتمديد ولايته الحالية"، وتجددت معها المظاهرات رفضاً "للتمديد" وداعية بوتفليقة "للرحيل"، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجزائر.
لم يسبق وأن خرج الجزائريون مطالبين برحيل رئيس البلاد، وكل الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم الجزائر خرجوا لأسباب أخرى، فأحمد بن بلة خرج بانقلاب عسكري، وهواري بومدين توفي وهو رئيس للجزائر، والشاذلي بن جديد اختلفت الروايات ما بين "استقالته أو إقالته"، ومحمد بوضياف اغتيل بعد 162 يوماً فقط من حكمه للجزائر، وعلي كافي غادر بموجب مخرجات ندوة الوفاق الوطني عام 1994، واليامين زروال انسحب من السلطة وسلمها لبوتفليقة.
بوتفليقة الذي حكم الجزائر في ظروف استثنائية أمنياً وسياسياً واقتصادياً وعاد الأمن في فترة حكمه للبلاد، يواجه اليوم ظروفاً مشابهة، أعلن فيها عن خارطة طريق لثالث مرحلة انتقالية في تاريخ البلاد، ويعترف المسؤولون الجزائريون خلالها بـ"حساسية وخطورة الوضع"، فيما يبقى الغموض سيد الموقف حيال مستقبل الأزمة السياسية الجديدة في الجزائر، ومدى نجاة الجزائر من تداعيات مراحل انتقالية لها تجارب "سيئة" معها، خاصة مع استمرار الحراك الشعبي المصر على "رحيل بوتفليقة".
ويقول العارفون بحقيقة الوضع السياسي في الجزائر، إن انتفاضة الجزائريين الأخيرة لم تكن ضد شخص بوتفليقة، بل ضد "محيط متعفن أغرق البلاد في الفساد بعد أن غاب بوتفليقة عن المشهد منذ 7 سنوات نتيجة وضعه الصحي".
وظهرت خلالها – بحسبهم – "جماعات من رجال المال والسياسة تاجرت باسم بوتفليقة واستعملته سجلاً تجارياً لأعمالها، وحاولت ترشيحه لولاية خامسة علها تستمر في مصالحها".
وللخروج من الأزمة الحالية، عرض الرئيس الجزائري خارطة طريق تكون فيها الندوة الوطنية للحوار مكلفة بتسيير وتحديد معالم مخرجاتها، وأكد أنها "ستعمل على تغيير النظام".
وقال بوتفليقة في رسالته الأخيرة إلى الجزائريين إن "الندوة الوطنية جامعة ومستقلة، وستكون هيئة تتمتع بكل السلطات اللازمة لتدارس وإعداد واعتماد كل أنواع الإصلاحات التي ستشكل أسيسة النظام الجديد الذي سيتمخض عنه إطلاق مسار تحويل دولتنا الوطنية".
كما تضمنت تعديلاً دستورياً يُعرض على الاستفتاء الشعبي، وتنظيم الانتخابات الرئاسية عقب انتهاء الندوة من أعمالها.