الجزائر.. إلى أين؟ (1-2)
مواقف الأطراف المختلفة في الجزائر تغيرت، فما كانت ترفضه بعض الأطراف عادت لتقبله، وما كانت تقبله راحت ترفع سقفه إلى مستوى أعلى.
لا شك أن حالة الحراك السياسي التي تشهدها الجزائر منذ فبراير/شباط الماضي، على وقع إعلان الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة ترشحه لولاية خامسة ثم إعلانه العدول عن قرار الترشح، تحمل الكثير من المشاهد ذات الدلالات المهمة خاصة مع تصاعد وتيرة الاحتجاجات في الشارع والحديث عن إمكانية تسويق خارطة الطريق التي جاءت في رسالة انسحاب بوتفليقة.
المتابع للمشهد الانتخابي الجزائري منذ نهاية عام ٢٠١٨ يمكن أن يسجّل العديد من الملاحظات:
أولا: جدلية العلاقة بين السلطة والشعب
يُلاَحَظ أن مواقف الأطراف المختلفة تغيرت أكثر من مرة، فما كانت ترفضه بعض الأطراف عادت لتقبله، وما كانت تقبله راحت ترفع سقفه إلى مستوى أعلى. ويمكن تفسير ذلك بأنه مع تطور الصراع السياسي بين السلطة والشعب تنشأ مستجدات تضطر الجهتين معا إلى تحوير مطالبهما بما يتناسب مع تلك المستجدات على نحو أشبه ما يكون بجدلية هيجل، حيث الفكرة تنقض الأخرى كجزء من صيرورة عملية التغيير والتطور.
ففي البداية كتب عبدالرزّاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم، على صفحته الخاصة بموقع فيسبوك، أنه إذا تعذر إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها فلا ضرر من تأجيلها بشرط أن يتم ذلك في إطار التوافق، كان هذا الموقف من الحزب -ذي التوجه الإخواني والقريب من النظام رغم وجوده في المعارضة- هو بالون اختبار لرد الفعل الشعبي على فكرة تأجيل الانتخابات.
وهذه الفكرة التقطها عمّار غول، رئيس حزب تجمع أمل الجزائر أحد أحزاب التحالف الرئاسي الحاكم، وأبدى بدوره استعدادا لقبول تأجيل الانتخابات وبدء المرحلة الانتقالية إذا ما تم الاتفاق على ذلك، لكن فكرة التأجيل قوبلت بمعارضة شعبية واسعة، وشاركت في المعارضة بعض الأجنحة المحسوبة على السلطة، وفي هذا الإطار ذكر معاذ بوشارب، وهو منسق هيئة تسيير جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم في الجزائر ورئيس المجلس الشعبي الوطني، أن الذين لا يعارضون التأجيل قد لا يكونون جاهزين بمرشح للانتخابات الرئاسية، في إشارة خفية لحزبي مقري وغول، أما فيما يخص جبهة التحرير فإن مرشحها كما قال هو الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة.
حسم الرئيس بوتفليقة هذا الجدل ببيان أصدره في ١٨ يناير/كانون الثاني ٢٠١٩ ثبّت فيه موعد الانتخابات الرئاسية في ١٨ أبريل/نيسان، لكن دون أن يحدد موقفه من الترشح في هذه الانتخابات، ولاقى الالتزام بموعد الانتخابات الرئاسية، المحدد سلفا، ترحيبا شعبيا واسعا، وبدأ المرشحون يعدّون ملفات ترشحهم، وإن ربط البعض منهم تقديم ملفاتهم للمجلس الدستوري بعدم ترشح بوتفليقة، وذلك على أساس أنه لو ترشح فالنتيجة محسومة لصالحه.
وجّه بوتفليقة رسالة للشعب الجزائري في ١٠ فبراير/شباط ٢٠١٩ أعلن فيها نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، واعدا بإدارة حوار وطني (ندوة وطنية) وإجراء إصلاحات وتعديل الدستور، ومؤكدا أن إرادة خدمة الوطن ستمكنه من تجاوز مصاعب المرض.
وفور نشر هذه الرسالة بواسطة وكالة الأنباء الجزائرية، اندلعت موجة من المظاهرات الشعبية امتدت من العاصمة الجزائر إلى العديد من المدن الأخرى كوهران وعنّابة وقسنطينة، وركزت المظاهرات على مطلبين أساسيين: سحب ترشُّح بوتفليقة وتأجيل الانتخابات الرئاسية.
ولم تتوقف هذه المظاهرات حتى حين نشرت وكالة الأنباء الجزائرية رسالة أخرى لبوتفليقة يتعهد فيها عند انتخابه بتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، وشرح فيها بعض الإجراءات التي ينوي اتخاذها في إطار ما سماه "تغيير النظام"، ومن هذه الإجراءات عدالة توزيع الثروة وتمكين الشباب وتعديل قانون الانتخابات، فضلا عن إجراء الحوار الوطني وتعديل الدستور.
ومع المظاهرات انطلقت الدعوات للعصيان المدني، واستجاب عدد كبير من القضاة لتلك الدعوات، إذ أعلن نحو ألف قاضٍ مقاطعتهم الإشراف على الانتخابات في حال ترشح بوتفليقة.
كما بدأت بعض القوى السياسية في مراجعة مواقفها المسبقة، فنجد أن عبدالرزّاق مقري أعلن مقاطعة الانتخابات وهو الذي كان قد طالب بتأجيلها، كما انسحب آيت مقران مدير حملة المرشح الرئاسي اللواء المتقاعد علي الغديري، معللا انسحابه بالانضمام للحراك الجماهيري.
في 11مارس/آذار، وجّه بوتفليقة رسالة أخرى للشعب الجزائري كان أهم ما جاء فيها: عدم ترشحه لعهدة خامسة والقول نصا "بل إنني لم أنْوِ قط الإقدام على طلبها" بسبب السن والظروف الصحية، وتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى ما بعد عقد "ندوة وطنية" لها كل الصلاحيات في تشكيل أسس النظام الجديد، وتغيير الحكومة التي يترأسها أحمد أويحى.
في ظاهرها استجابت الرسالة لطلب المتظاهرين عدم ترشح بوتفليقة، لكن في مضمونها فإنها مثّلت عودة للاقتراح الأول الذي سبق أن تقدم به كل من حركة مجتمع السلم وحزب تجمع أمل الجزائر والخاص بتأجيل الانتخابات، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لم ترتبط الرسالة بأي قيد زمني ما يعني تمديدا مفتوحا للعهدة الرئاسية.
ومن جهة ثالثة انطوت الرسالة على استفزاز لمشاعر الجزائريين بنفي نية بوتفليقة الترشح للرئاسة في حين أنه وجّه رسالتين من قبل تؤكدان عزمه الترشح، وقدّم مدير حملته الانتخابية أوراقه للمجلس الدستوري. من هنا أدى هذا التطور إلى تأجيج المشاعر الجماهيرية بعد ساعات قليلة من الابتهاج الشعبي الكبير بانسحاب بوتفليقة من السباق الانتخابي.
زادت المظاهرات حجما وانتشارا، وكانت مظاهرات الجمعة ١٥ مارس هي الأضخم قاطبة، والعصيان المدني الذي كان قد بدأ على نطاق ضيق في قطاعات البنوك والضرائب والتعليم.. إلخ راح يمتد إلى المزيد من القطاعات، وشل مرافق حيوية كميناء بجاية، بل ظهرت دعوات لإضراب الإداريين والعمال في شركة سوناطراك التي تتحكم في المحروقات والتي هي مصدر الدخل الأساسي للجزائر.
انتقل المتظاهرون من رفض بوتفليقة إلى رفض النظام القائم برمته، ولذلك كان انتقادهم عنيفا لتعيين نور الدين بدوي رئيسا للحكومة، خاصة أنه شغل منصب وزير الداخلية من قبل، ومع أن رمضان لعمامرة الدبلوماسي المخضرم الذي عُيّن نائبا لبدوي يتمتع بمصداقية معتبرة في الشارع الجزائري إلا أن قبوله المنصب أدى لتشويه صورته، خاصة أن البعض اعتبر تعيين لعمامرة هدفه مخاطبة الخارج واحتواء أي انتقاد لموقف السلطة الجزائرية في التعامل مع الحراك.
ويُذكَر في هذا السياق أن ثمة ما يشير إلى أن لعمامرة توجه بالفعل لزيارة روسيا بعد تعيينه نائبا لرئيس الوزراء.
على صعيد آخر، فإن المتظاهرين مع اقتناعهم بأهمية التأسيس لجمهورية ثانية يعاد فيها التوازن للعلاقة بين السلطات، وتُراجع فيها العلاقات المدنية-العسكرية، وتُعَزز فيها الحقوق والحريات، وإدراكهم أن هذا الأمر يحتاج إلى إجراء حوار وطني واسع، إلا أنهم رفضوا بشدة أن يتم هذا الحوار في ظل وجود بوتفليقة في السلطة لأن ذلك، على حد قول بعضهم، يؤدي إلى "تسقيف الحوار" أي إلى تحديد سقف الحوار.
نأتي للأخضر الإبراهيمي الدبلوماسي القدير الذي استقبله بوتفليقة ودارت تكهنات عن أنه هو الذي سيشرف على الحوار الوطني، فإنه بدوره أثار غضب المتظاهرين لسببين؛ الأول أن له سوابق في إخراج بوتفليقة من بعض الأزمات السياسية التي كان يواجهها، والسبب الآخر أنه في حديثه لمجلة چون أفريك الفرنسية -بعد لقائه بوتفليقة- دافع عن شعبية الرجل في الشارع الجزائري.
ثانيا: موقف المؤسسة العسكرية
فور إعلان بوتفليقة ترشحه، تحدث رئيس أركان الجيش اللواء أحمد قائد صالح، لأول مرة، منذ اندلاع أزمة الانتخابات وألقى بيانا يوم ٥ مارس/آذار ٢٠١٩ اتسم بيانه بلهجة تحذيرية من أن "بعض الأطراف يزعجهم أن يروا الجزائر آمنة ومستقرة، بل يريدون أن يعودوا بها إلى سنوات الألم وسنوات الجمر ".
وطالب الشعب بأن "يعرف كيف يتعامل مع ظروف وطنه وشعبه"، مؤكدا أن الجيش سيظل "ماسكا بزمام ومقاليد إرساء هذا المكسب الغالي (يقصد الأمن والاستقرار) الذي به استعاد وطننا هيبته".
واعتبر البعض هذا الخطاب ينطوي على تهديد ويؤكد حضور الجيش في المشهد الجزائري.
ثم مع تصاعد الحراك الشعبي، ألقى صالح خطابا ثانيا بدا فيه أكثر هدوءا وتفهما، وتحدث فيه عن العلاقة الوطيدة بين الجيش والشعب، "إن قواتنا المسلحة هاجسها الأول هو الحفاظ على العلاقة الوطيدة مع الشعب"، ويلفت النظر هنا استخدام مصطلح "هاجسه الأول" ما يعني ضمنيا أن الجيش لن يصطدم بإرادة الشعب.
وفيما يخص نقطة المؤسسة العسكرية الجزائرية توجد عدة جزئيات:
١-لا يحبذ الجيش الجزائري استلام السلطة وإن كان هو صانع الرؤساء، وهو يتدخل لحسم الاختيار في اللحظة المناسبة، فهو الذي حسم الأمر لصالح رئاسة الشاذلي بن جديد كمرشح توافقي في عام ١٩٧٩، وهو الذي نحّاه في عام ١٩٩٢ وأتى بمحمد بوضياف رئيسا للمجلس الأعلى للدولة.
٢-إن اتجاها قويا داخل الحراك الشعبي قد وعى جيدا -من تجربة العراق بعد ٢٠٠٣ وأيضا من التجربتين الليبية والسورية- طبيعة العلاقة الارتباطية بين تفكيك جيش الدولة (وأجهزتها المخابراتية) من جهة وتفكيك الدولة نفسها من جهة أخرى، وبالتالي فإن هذا الحراك يفصل بين رفضه موقف الجيش في مساندة ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة أو تمديد عهدته الرابعة الحالية وبين رفضه الصدام مع الجيش أو تشجيع الانشقاق بين صفوفه.
ولعل هذا يشرح لنا طبيعة الشعارات التي يرفعها المتظاهرون تأكيدا على العلاقة الوطيدة التي سبق أن أشار لها رئيس الأركان نفسه بين الجيش والشعب، كما يفسر لنا تمسك الحراك بسلمية مظاهراته وتنصله من أعمال تلك الفئة التي تم القبض عليها (نحو ١٠٥ أشخاص) بتهم العنف والتخريب لتفجير الموقف واستدراج الجيش إلى استخدام العنف المضاد.
٣- تشير مصادر عدة إلى أن ثمة مشاورات غير معلنة تجريها السلطة -وفي قلبها المؤسسة العسكرية- من أجل تهدئة الشارع وتسويق خارطة الطريق التي جاءت في رسالة انسحاب بوتفليقة، أما كون ذلك يحقق هدفه بالفعل أم لا فتلك قضية أخرى.
ومن الشخصيات التي تتردد أسماؤها في هذا الخصوص اللواء محمد مدين (أو اللواء توفيق) الرئيس الأسبق للمخابرات الحربية أو العسكرية، فمع أن الملابسات التي أدت لتنحيته في عام ٢٠١٥ أدت لتوتير العلاقة بين الجيش والمخابرات، إلا أن امتدادات الرجل في العديد من مؤسسات الدولة وأجهزتها فرضت اللجوء إليه طلبا للاستقرار.
ويشار في هذا الخصوص إلى أن تعيين رمضان لعمامرة نائبا لرئيس الوزراء هو جزء من استرضاء توفيق بوصف لعمامرة واحدا من رجالاته.
كذلك يعد أحمد غزالي، رئيس الوزراء السابق في عهد الشاذلي بن جديد وأحد المديرين السابقين لشركة سوناطراك، من الأسماء المتداولة لاقتراح البدائل أمام السلطة من دون أن يتضح أي دور للرجل في المرحلة المقبلة، وهكذا يمكن القول إن حوارات جانبية تسبق الحوار الوطني الذي دعا إلى بوتفليقة.
ثالثا: قضية تأطير الحراك
هذه القضية مثارة بشدة على مستوى الحراك الشعبي الجزائري ويوجد بخصوصها رأيان مختلفان:
الرأي الأول -وهو رأي محدود الانتشار- يقول إنه لا بد من تأطير الحراك الشعبي، بمعنى أنه لا بد من الاتفاق على شخص (أو أكثر) يكون موضع ثقة ويتولى إدارة التفاوض مع السلطة.
ومنطق هذه المجموعة أن عدم وجود مَن يمثل الحراك يؤدي إلى تفرقه، خاصة مع الانتشار الجغرافي للمظاهرات الجماهيرية.
ومن أبرز الأسماء المطروحة في هذا الشأن المحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان مصطفى بوشاش، وهو كثير الظهور على الفضائيات وإن لم يدّع هو نفسه أن له صفة تمثيلية.
كذلك يبرز اسم عبدالكريم طابو وكان من أقطاب حزب جبهة القوى الاشتراكية، الذي أسسه حسين آيت أحمد، قبل أن ينشق عنه ويعارضه كما يعارض نظام بوتفليقة.
كما يتم تداول أسماء ثلاثة أخرى هي: فارس مسدود الأستاذ الجامعي المتخصص في الاقتصاد، وفوضيل بوماله وهو صحفي مخضرم، وسليمان بخليلي وهو أيضا صحفي وقريب من الاتجاه الإسلامي وإن كان غير محسوب على أي من الأحزاب الإسلامية القائمة.
الرأي الثاني -وهو رأي شائع- يرفض رفضا قاطعا التداول في أي أسماء تتفاوض باسم الحراك الشعبي وتمثله في هذه المرحلة.
ومنطق هذا الرأي هو أن الحراك اندلع بشكل غير منظم ويجب الحفاظ على عفويته وتلقائيته، أما وجود أشخاص يتحدثون باسمه فمعناه وجود مراكز للقوة ستتضارب مصالحها مع مصالح الحراك طال الزمن أو قصر.
وفي هذا السياق يشير البعض إلى ما يسميه رفض "الوصاية" التي تمارسها حركة مواطنة التي توصف بأنها حركة نخبوية، كما يرفض "وصاية" القوى السياسية الأمازيغية التي يتم تداول أسمائها، من دون أن يكون لهذا الرفض مدلول إثني فالمقصود هو الرفض بالمعنى السياسي لا الإثني.
هذه التعقيدات التي يموج بها المشهد الجزائري تقود إلى تساؤل جوهري مفاداه الجزائر إلى أين؟ وهذا ما سنحاول الإجابة عنه في الجزء الثاني من هذا التحليل.
** الدكتورة نيفين مسعد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة