إذا كان للعالم يوم واحد للاحتفال بعيد الحب، فإن للجزائري الملقب بـ"ديدو" 365 يوماً لتخليد عشق رحل دون أن يموت.
هي قصة حقيقية، ليست سيناريو لفيلم سينمائي أو عمل درامي أو مسرحي، يصفها كثيرون في الجزائر بـ"ملحمة الحب النادرة" لرجل تعدى سنه الـ90 عاماً، بينها 42 عاماً قضاها مع زوجته الراحلة.
رمضان بوثرية الملقب بـ"ديدو" بات "أيقونة للحب وللوفاء النادر له" في عصر يقال عنه إنه "للحب المميع" و"الوفاء الغائب" لشخص ولد عام 1929.
في قصة "ديدو" لم يغب لا الحب ولا الوفاء رغم غياب زوجته ورحيلها عن عالمنا منذ نحو 7 سنوات، سلم بقضاء الله وقدره، لكنه أبى أن يقبل بوفاة عشقه لها.
لم يخلد ذكراها، بل خلد عشقهما عندما حوّل العمارة التي يقطن بها ومسكنه إلى "متحف للحب"، فيما يعتبرها "ديدو" "القلعة التي كانت شاهدة على كل تفاصيل حياتهما".
"العين الإخبارية" تنقلت إلى بيت "عمي ديدو" كما يسميه جيرانه في حي القصبة العتيق بأعالي العاصمة الجزائرية.
رغم كثرة الأزقة الضيقة لهذا الحي الشعبي التي قد يتيه فيها أي إنسان غريب، إلا أن اسم "ديدو" كان بوصلة أو ما يشبه الـ"GPS" الذي أوصلنا إلى عمارته ومنزله.
يكفي أن تسأل الصغير والكبير عند وصولك إلى حي القصبة عن شخص اسمه "ديدو"، الكل يعرفه ويعلم بقصة عشقه لزوجته الراحلة.
متحف الحب
لم تكن رحلتنا في البحث عن "ديدو" طويلة ولا شاقة، وجدناه كما وصفه لنا أهل القصبة، كان أمام العمارة مرتدياً بذلته البحرية البيضاء المفضلة، وحيدا كعادته، والكل يلقي السلام عليه.
رغم سنه البالغ 92 عاماً، إلا أننا وجدنا رجلا لازال يغني وحتى يرقص، محب للدعابة والنكت، ربما هي "خلطة الحب النادر التي أعطته تلك القوة".
كان يردد واحدة من أغاني صديقه المقرب، أيقونة الفن الشعبي الجزائري الراحل دحمان الحراشي صاحب رائعة "يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي".
"ديدو" الذي عاصر عمالقة الفن والسينما وحتى السياسة بالجزائر، وكانت له معهم صداقات حميمية، لا زال يتذكر تفاصيلها، خصوصاً صديقه الحميم دحمان الحراشي الذي كان له الفضل في تلقيبه بـ"ديدو"، وهو الاسم الذي استمده من الفيلم الجزائري "تحيا ديدو" الذي صُور في سبعينيات القرن الماضي بحي القصبة.
اقتربنا منه، وسلمنا عليه، قابلنا بتلك الابتسامة والترحيب اللذين لا يفارقانه، ظهر أن له شخصية مرحة، محب للضحك وللنكت بتلك "اللكنة العاصمية القديمة".
لم تمر 5 دقائق من حديثنا معه، وإذا بفوج سياحي من شباب أوروبيين يتقدمون نحو العمارة التي يقطن بها "ديدو" برفقة الدليل السياحي "عبد الرحيم تيسي".
اقتربوا من "ديدو" للتعرف عليه، ثم سارعوا لعمارته، سألناه عن سبب زيارتهم للعمارة، ابتسم وطلب منا بسخرية أن نجد الإجابة.
كانت عمارة مميزة فعلا من واجهتها، وعند دخولنا ذهلنا كما ذهل هؤلاء السياح، ديكور خاص في كل جدران وزوايا العمارة، إنه "متحف يخلد عشق ديدو لزوجته"، جمع فيه صورهما، وذكرياته القديمة مع أصدقائه.
كان أرشيفاً حقيقياً يصعب إيجاده في أي متحف رسمي، صور نادرة لعمالقة الفن الجزائري أيضا، بينهم الراحلون الحاج محمد العنقى وعمر الزاهي، وصور أخرى لأزقة القصبة قديماً، والتي تعتبر "الحب الثاني" لـ"ديدو".
تركنا "ديدو" مع السياح وهو يقدم لهم شروحات عن متحفه النادر، حاولنا الاستفسار عن سر قصته مع الدليل السياحي "عبد الرحيم تيسي" الذي كشف لـ"العين الإخبارية" عن مخلص لحياته الشاقة والطويلة والمليئة بالأحداث.
معلم تاريخي
قال عبد الرحيم إن ديدو "هاجر إلى فرنسا وهو في سن الـ16 عاماً بسبب الفقر الذي كان يعيشه، حيث باشر عمله في مصنع السيارات رينو، كما دخل عالم الملاكمة ونال عدة جوائز".
خلال فترة حياته هناك، تعرف "ديدو" على شابة فرنسية – يضيف عبد الرحيم – "تزوجها وعاش معها قصة حب لم تطل بعد أن تعرضا لحادث سير، توفيت خلاله زوجته، وأًصيب هو بجروح".
وأضاف أن "ديدو لم يستطع بعدها العيش في فرنسا، وقرر العودة للجزائر، اكتشف خلالها أن له موهبة خاصة، وهي التزيين، وبات منذ ذلك الوقت مطلوباً في كل أفراح وأتراح أهل العاصمة، يحب كثيرا الفنانين ومجاهدي وشهداء الثورة التحريرية، ويعرف جيدا تاريخ بلاده".
الدليل السياحي كشف لـ"العين الإخبارية" عن أن "ديدو" ليس مجرد شخصية معروفة في حي القصبة العتيق، ووصفه بـ"المعلم التاريخي الحي لهذا الحي الشعبي".
صدفة القدر
حدثنا أيضا "عبد الرحيم" عن بدايات قصة حب ديدو، وكشف حادثة نادرة وغريبة لا يمكن لأي كاتب سيناريو أو مخرج مبدع أن ينتبه إليها في أي عمل سينمائي.
كان ذلك تفصيلا غريباً ومدهشاً في قصة حب "ديدو"، "فبين حبه الأول ولد حبه الثاني"، إنها صدفة قدر نادرة الحدوث عندما كشف "عبد الرحيم" بأن تاريخ زواج "ديدو" من زوجته الفرنسية تزامن مع يوم ولادة زوجته الجزائرية الثانية، لدرجة أن "ديدو" يصفها بـ"الزوجة الابنة".
مفاجأة أخرى كشف عنها المرشد السياحي لـ"العين الإخبارية" عن "ديدو"، تتعلق بجانب إنساني آخر من شخصية متفردة، إذ يقوم كل شهر باقتطاع "3 أرباع" راتبه من أجل الصدقة.
يقول "عبد الرحيم": "ديدو ليس بحاجة للمال، ماله الحقيقي حب الناس له وحبه للناس، وعشقه لزوجته هو رأس ماله الحقيقي، يحب أن يرى كل الناس مرتاحة وسعيدة".
ومن عجائب القدر أيضا في قصة "ديدو" أنه "شخص وحيد، ليس له أولاد ولا أشقاء"، لكنه يعتبر كل الناس أبنائه وأشقائه.
قصة حب نادرة
عدنا إلى "ديدو" ونحن مندهشون مما سمعناه عن شخصية اعتقدنا أنها مخصصة فقط لحب زوجة راحلة، وإذ بها صفحات متتالية من الحب الغزير الذي لا ينتهي ولا يتوقف عند أي شخص.
ومع ذلك، أردنا أن نسمع منه قصة عشقه لزوجته الراحلة، استقبلنا في بيته الصغير بترحاب كبير، نعم.. كان بيتًا صغيرا في مساحته، هكذا اعتقدنا.
بمجرد فتح "ديدو" ألبومات صوره مع زوجته الراحلة، وبداية حديثه عن تفاصيل قصة عشقهما، تبين لنا بأننا في قصر كبير، تذكرنا حينها كلمة "القفص الذهبي" التي يعتبرها كثيرون تعبيرا مجازياً عن رابطة الزواج.
لكن لا شيء مجازي في قصة "ديدو"، كل شيء حقيقي، كان ذلك المنزل فعلا قفصاً ذهبياً، يعشق فيه "ديدو" كل تفصيلة، لأنها تذكره بعشق لا زال ينبض رغم زواجه مرة ثالثة.
يقلب صفحات الألبومات، يبتسم عند صورة هنا، ويتوقف عند أخرى هناك، وهو يسرد لنا مع كل صورة قصته وكأنها صورة سريعة لفيلم سينمائي بالأبيض والأسود.
ورغم أنه مصاب بمرض "الزهايمر" إلا أن "المعجزة" التي وقفنا عندها وذكرها لـ"العين الإخبارية" ذلك المرشد السياحي، أن ذلك المرض لم يتمكن من محو ذكرياته الجميلة مع زوجته الراحلة، ولا عشقه لها.
ومن صورة لأخرى، وكلام لآخر، يسرح "ديدو" بذهنه للحظات، لم تكن من علامات "الزهايمر" بل "أعراض عشق".. تأكدنا من ذلك، عندما يعود للكلام بابتسامة أو حتى ضحكة، ربما يحاول بها إخفاء دمعة الفراق.
لم يتمكن سنه الطاعن ولا مرضه الذي لا يرحم أن يهز شخصيته ولا ذاكرته القوية، التي قال عنها المرشد السياحي "عبد الرحيم" بأنها "نموذج للرجل الجزائري القديم".
حتى ذلك المنزل الصغير حوله "ديدو" إلى متحف خلد فيه قصة حبه مع زوجته الراحلة، صور وأغراض خاصة بها، وزينة بكل الألوان، تقودك مباشرة إلى عالم "ديدو".
وبذاكرة قوية وسمع واضح، بدأ "ديدو" يسرد لنا تفاصيل تلك القصة التي وصفها بـ"الرائعة" مع زوجته المتوفية والتي امتدت لـ"42 عاماً".
قال "ديدو" "كنت أعيش حياة رائعة، حياة سعيدة، إلى أن جاء أجلها حيث دفنت مع والدتها"، وكشف عن وصيته التي تركها لمعارفه بأن "يتم دفنه بالقرب من زوجته".
"ديدو" سرد أيضا لـ"العين الإخبارية" جانباً من أسرار حياته الزوجية مع الراحلة، بكثير من الندم والحسرة، وهو يتحدث "عن طباعه السيئة معها وتقلب مزاجه".
قد يكون ذلك سبب تعلقه بها إلى يومنا، لم يكن تعلقاً بل عشقاً وهياماً يصعب وصفه، يبرز في سكوته وتيهانه أكثر من كلامه، حتى إن تلك التجاعيد البارزة في وجهه تكاد تختفي وهو يتكلم بحنين عن زوجة الراحلة، وما تلبث أن تعود للظهور عند حديثه عن رحيلها.
تجاعيد تخفي الكثير من الأسرار، أو لنقل أن كل تجعيدة منها تلخص سيرة عشق وحنين وعذاب وراحة أيضا، لعمر تزين بمشاعر نبيلة وعفيفة كما زين "ديدو" عمارته ومنزله تكريماً وتخليدا لذلك الزمن الجميل.
قال لنا "ديدو" "إنه كان يسيء معاملتها بسبب طباعه"، ورغم ذلك "تحملتني طوال 42 سنة"، سألناه حينها عن سبب تلك الطباع، فرد بأنه "لم يكن يتحكم بها"، لأنه كان يريد أبناء حوله، فيما لم تكن زوجته الراحلة قادرة على الإنجاب.
كان ذلك واحدا من أسرار حياته الزوجية، وهو الذي كان يعيش صراعاً داخلياً بين الرغبة الجامحة في الأبناء، وحبه لزوجته التي قال إنه "لن يسناها حتى آخر لحظة في حياته"، وهكذا كما رفض أن يظلمها في حياتها فقد أنصفها في مماتها.
تتقلب مشاعره وملامح وجهه وهو يسرد لنا قصة حياته، يظهر بنوع من الغضب وهو يتحدث عن حماته التي قال إنها "كانت تحاول التدخل في حياتهما" رغم اعترافه بفضلها عليه.
وبملامح حزن وهو يتكلم عن فراق زوجته وبقائه وحيدا بدونها وبدون أبناء، وتشع عيناه عندما يكلمنا عن حياته مع حبه الراحل.
هنا وكأن "ديدو" "يجلب الزهايمر" إلى عقله، عندما يتحدث عن زوجته وكأنها لا زالت على قيد الحياة، وكأنه يريد أن يمحو من ذاكرته تلك الفترة التي تلت رحيلها.
هكذا هو "ديدو" يعيش عذاب الحب، الذي يعترف فيه بندمه على سوء معاملته لها أحياناً، أو لأنه بقي متحسرا على كلام كثير لم يقله لها، بقي محبوساً في قبله الكبير والضعيف.
بعد كل ذلك، غادرنا منزل "ديدو" بمزيج من الأحاسيس، أصعبها "إحساسنا بالندم" عندما تركناه يسبح في ذكرياته الجميلة والتعيسة، ذكّرناه بتفاصيل أكد لنا بأنه نسيها فزادت من ألمه بعد أن أخرجها من أدراج النسيان.
وأحاسيس أخرى عن "الخزي" من "وضع الحب في زماننا هذا" كما يقول كثير من الشباب، لكنه يمد كل من يجلس بجانبه ويحسن الاستماع إلى كلامه قوة نفسية ومعرفة أكبر بمعاني الحب الحقيقية التي أتقن "ديدو" تجسيد أدوراها "دون تمثيل"، وأن "الوفاء" قطعة نادرة لكنها قد تتوفر عندما تجد من يعرف قيمته.
aXA6IDMuMTMzLjEzOS4yOCA=
جزيرة ام اند امز