التعاطي مع الشأن الإيراني يفرض ضرورة رصد المؤسسات التي تحكم صناعة القرار السياسي والعسكري والاقتصادي
إن محاولة الإلمام بمحددات البيئة الاستراتيجية في دولة ما وإخضاعها لواقع البحث والتشريح، يقتضيان الإحاطة بالآليات التي تحكم مسلسل صناعة القرار السياسي، وهو ما يفرض تحديد أهم المفاصل التي تتدخل في رسم مداخل ومخارج عملية التدافع السياسي التي تؤدي إلى إنتاج رسم سياسي معين سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
في هذا السياق، وانطلاقا من القاعدة الكلاسيكية القائلة بأن "معرفة العدو نصف هزيمته"، فإن التعاطي مع الشأن الإيراني يفرض ضرورة رصد المؤسسات التي تحكم صناعة القرار السياسي والعسكري والاقتصادي في إيران، وهو المعطى الذي يدفعنا، بشكل موضوعي، إلى التطرق لدور وموقع المرشد الأعلى للثورة في البناء المؤسساتي لدولة إيران، وإلى أي حد تتحكم أعلى مرجعية في طهران في توجيه مستقبل هذه الدولة، دون إغفال دور جل المتدخلين الذين يساهمون في توجيه اختيارات الولي الفقيه. هذا الرصد سيسهم، لا محالة، في فهم آلية اتخاذ القرار السياسي في إيران انطلاقا من تأصيل هرمي ينطلق من رأس النظام ويتفرع إلى باقي المؤسسات التي تشكل أهم مفاصل الجمهورية الإيرانية.
وتكمن أهمية تسليط الضوء على شخصية علي خامنئي في كونها استطاعت الحفاظ على وحدة الكيان السياسي، وخلفت شخصية ذات رمزية قوية سياسيا ودينيا من قيمة روح الله الخميني، في وقت كان يظن فيه الجميع أن صفحة "الثورة الإسلامية" ستُطوى بوفاة رمزها الذي وافته المنية في 3 من يونيو سنة 1989م.
من هو علي خامنئي؟
ولد علي الحسيني خامنئي بتاريخ 17 يوليو 1939م بمدينة مشهد من محافظة خراسان الإيرانية، وكان والده جواد الخامنئي من علماء مشهد، وجدّه حسين الخامنئي كان، أيضا، من علماء أذربيجان المقيمين في النجف. أما والدته فهي خديجة ميردامادي، أصولها من مدينة أصفهان وهي من أحفاد مير برهان الدين محمد باقر إسترآبادي الملقب بـ"ميرداماد"، أحد الفلاسفة والخطاطين والفقهاء في أيام الصفويين. أما عن نسبه فهو يدّعي أن نسله يصل إلى الخليفة الراشد الرابع عليّ بن أبي طالب من طريق زين العابدين بن الحسين الإمام الرابع عند الشيعة الإمامية، في محاولة منه لإضفاء هالة من القداسة "المصطنعة" على شخصيته على اعتبار أنه الولي الفقيه والقائم بأمر المهدي الغائب.
التكوين العلمي:
درس علي خامنئي آداب اللغة العربية وأصول الفلسفة والمنطق على يد العديد من المدرسين في مشهد من أمثال الشيخ هاشم قزويني وجواد آقا طهراني وأحمد مدرس يزدي، كما درس سنتين على أيدي بعض المراجع الشيعة في العراق ومن أبرزهم آية الله محسن الحكيم، وآية الله أبو القاسم الخوئي، وآية الله محمود شاهرودي قبل عودته إلى إيران سنة 1959م، حيث توجه إلى مدينة قم والتحق بحوزتها العلمية لاستكمال دراسته الدينية العليا في الفقه والأصول، وهناك دأب على حضور دروس أهم الأساتذة فيها من قبيل حسين البروجردي وروح الله الخميني والشيخ مرتضى الحائري اليزدي ومحمد محقق ميرداماد وسيد محمد حسين الطباطبائي .
هذه المعطيات تفسر، إلى حد بعيد، السياقات الأيديولوجية والسياسية التي توثق للتقارب الإخواني الصفوي، وهو التقارب الذي ما زال قائما بقوة إلى أيامنا هذه، خصوصا بعد التقارب الذي جمع طهران بنظام الحمدين في قطر.
بعد مسيرته في طلب العلم، سيعود علي خامنئي إلى مدينة مشهد سنة 1964م ليدرس بها العلوم الفقهية وأصول المكاسب والتفسير عند أستاذه القديم آية الله ميلاني. وهناك سيعكف خامنئي على تلقين تلامذته أصول ومبادئ الإسلام السياسي ويزرع فيهم روح الثورة والانقلاب على نظام الشاه، وهو ما واجهته السلطات الإيرانية باعتقال خامنئي في عدة مناسبات كان آخرها عام 1977 حين تم اعتقاله وإبعاده إلى مدينة إيران شهر في محافظة سيستان وبلوشستان.
ومن خلال دراستنا لسيرة علي خامنئي، وقفنا على تأثره العميق بالفكر الإخواني وخصوصا كتابات سيد قطب، حيث قام خامنئي، بعد فتحه مطبعة لنشر الكتب الثورية، بترجمة كتاب سيد قطب المعنون بـ"المستقبل لهذا الدين" مُدبجا إياه بمقدمة جاء في إحدى فقراتها "هذا الكتاب، رغم صغر حجمه، خطوة رحبة فاعلة على هذا الطريق الرسالي. مؤلفه الكريم الكبير سعى في فصوله المبوبة تبويباً ابتكارياً، إلى أن يعطي أولاً صورة حقيقية عن الدين، وبعد أن بيّن أن الدين منهج حياة، وأن طقوسه لا تكون مجدية إلا إذا كانت معبّرة عن حقائقه، أثبت بأسلوب رائع ونظرة موضوعية أن العالم سيتجه نحو رسالتنا، وأن المستقبل لهذا الدين".
ولعل تقاطع كتابات سيد قطب بخصوص مفاهيم "الحاكمية" ووجود مرادفاتها الإبستيمولوجية عند الشيعة الجعفرية ممثلة في الإمامة، بالإضافة إلى مواقف سيد قطب من كبار الصحابة وعلى رأسهم عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، يَسَّرا سُبل التقارب بين هذه المفكر المثير للجدل وحكام إيران الجدد. وهنا نجد علي خامنئي يفاخر بكتابات سيد قطب فيقول: "فالكتب الأخرى للمؤلف المفكر المجاهد تشكل كل منها خطوة على طريق توضيح معالم الرسالة الإسلامية، وتفند مزاعم أولئك الذين يتهمون الإسلام بالبعد عن المنهج العلمي الصحيح وبأنه استنفد أغراضه".
إن التقاطعات الفكرية التي رصدناها بين فكر خامنئي وجماعة الإخوان المسلمين، تجد لها ما يعضدها في إرهاصات التكوين السياسي لعلي خامنئي، حيث إن ميولات عائلته القومية، والتي انتهت بإعدام زوج عمته محمد خياباني من طرف نظام الشاه، لم تمنع المرشد الحالي من إيجاد ضالته في فناء تيار الإسلام السياسي في نسخته الإيرانية. ولعل هذا التقاطع الأيديولوجي مرده إلى تأثر خامنئي بمجتبى نواب صفوي زعيم حركة فدائيان إسلام، حيث التقاه في مشهد سنة 1952 وقويت العلاقة بينهما قبل اعتقال خامنئي في إحدى المناسبات على خلفية حضوره تجمعا احتجاجيا لحركة فدائيان إسلام.
وهنا لابد من التذكير بالعلاقات القوية التي كانت تربط نواب صفوي بالتنظيم الإخواني، حيث سبق له أن زار مصر سنة 1954 بناء على دعوة من الإخوان المسلمين والتقى هناك بالمرشد العام حسن الهضيبي وسيد قطب لتتوطد العلاقة بين الطرفين إلى درجة قيام الجماعة بمحاولات جادة لمحاولة إطلاق سراح نواب صفوي أو اختطافه من السجن بعدما حكم عليه بالإعدام، وهو الحكم الذي تم تنفيذه في حقه رميا بالرصاص بتاريخ 18 يناير 1956. ويُنسب لصفوي أنه قال في حفل خطابي بدمشق سنة 1954، بحضور مراقب الإخوان المسلمين في سوريا مصطفى السُّباعي "مَن أراد أن يكون جعفرياً حقيقياً فلينضم إلى صفوف الإخوان المسلمين". هذه المعطيات تفسر، إلى حد بعيد، السياقات الأيديولوجية والسياسية التي توثق للتقارب الإخواني الصفوي، وهو التقارب الذي ما زال قائما بقوة إلى أيامنا هذه، خصوصا بعد التقارب الذي جمع طهران بنظام الحمدين في قطر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة