مايزال العراق يعاني من هيمنة المليشيات الموالية لإيران على مفاصل الدولة، وانتشار الفساد وغياب تطبيق القانون على بعض المتنفذين.
بعد جولته الأوروبية لكل من برلين وباريس، سعى مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي أثناء لقائه مع بوريس جونسون مؤخرًا إلى التأكيد على إجراء انتخابات نزيهة في عراقٍ ليس بحاجة إلى قوات عسكرية على أرضه، إلا أن هذا الأمر معقدٌ للغاية بعد هجمات المليشيات الموالية لإيران على قوات التحالف وخاصة الأمريكية. وهو ما يعيد إلى الأذهان أن الوضع الأمني لا يمكن أن يستتب بوجود هذه القوات أو بدونها كما أثبت الواقع.
لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح هو ليس تواجد القوات الأجنبية على أرض العراق بقدر الحديث عن تمكن حكومة الكاظمي من إجراء انتخابات نزيهة في ظل الفساد المستشري في مفاصل الدولة وسط تغول الأحزاب الدينية والمليشيات المهيمنة على المشهد السياسي؟
تشير الدلائل أن لا شيء يمكن أن يتحقق بدون الإصلاح المالي والإداري في العراق. لذلك قدم الكاظمي ما أطلق عليه الورقة البيضاء للإصلاح التي تتلخص في إيجاد فرص عمل لتطوير عجلة الاقتصاد العراقي في حالة انعدام الدولة القوية بكل آلياتها، لأن الأحزاب لا تزال تهيمن على جميع الموارد عملاً بمبدأ المحاصصة وتوزيع الغنائم لا تخضع لآليات الدولة العراقية.
يبقى الكاظمي وحيدًا في الساحة، تحيط به حيتان الفساد التي تهيمن على مفاصل الاقتصاد العراقي الذي شكّل حجر الأساس في مباحثاته مع المسؤولين الأوروبيين الذين يدركون جيدًا أن المليشيات الموالية لإيران هي المسيطرة على آليات الاقتصاد والأمن.
مما لا شك فيه أن الاقتصاد العراقي هش قبل مجيء جائحة كورونا وتراجع عائدات تصدير النفط، وعجز الدولة عن دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين الذين بلغ عددهم نحو 6 ملايين موظف، مما يشكل عبئًا على كاهل الحكومة في ظل الاعتماد المنفرد على صادرات النفط وعدم تنويع موارده بعد أن تم القضاء على الزراعة والمصانع الصغيرة التي كانت مزدهرة في السابق. ومن هنا تأتي صعوبة وتعقيد عملية الإصلاحات المالية التي أشار إليها الكاظمي، لأنها لا يمكن أن تتحقق من خلال التصريحات والخطط غير القابلة للتطبيق من دون حل المليشيات الموالية لإيران التي وجدت في ضعف الحكومة العراقية متنفسًا لها من أجل تجاوز أزمتها مع العقوبات الأمريكية، حيث بلغت صادرات إيران إلى العراق بضع مليارات من الدولارات عبر إغراق الأسواق العراقية ببضاعتها ومنتوجها وهيمنتها هي والموالين لها على التجارة والاقتصاد. والخطوة الأولى التي ترسم طريق الإصلاح المالي والإداري هي توفير الأمن والأمان لشركات الاستثمار وإبعاد الفاسدين عن التفكير في العمولات وغيرها من عمليات الفساد. وهنا تدرك باريس وبرلين ولندن محطات الكاظمي في جولته الأوروبية أن الثقة بالبيئة الصالحة للاستثمار منعدمة في ظل الهيمنة الإيرانية.
وأثبتت الوقائع أن العراق يتخبط وسط الاتفاقيات الدولية حيث أنها تتغير حسب تقلبات الحكومات والأشخاص في ظل انعدام المؤسسات القائمة وذات الأسس المتينة، لذلك تذهب القرارات والمشاريع بمجرد ذهاب الأشخاص. ولا يزال المسؤولون على القرار في العراق لا يتعاملون بعقلية الدولة المسؤولة بل بعقلية المليشيات. وهو ما يجعل جميع الاتفاقيات قابلة للتغير والإلغاء والإهمال. وهذا ما حصل مع حكومة عادل عبد المهدي وحيدر العبادي وغيرهما إذ لا تتوفر الأسس الثابتة لمشاريع التعاون الاستراتيجية مع البلدان الأخرى.
في زيارة الكاظمي الأخيرة لكل من باريس وألمانيا ولندن، جرى التأكيد على مصطلح توسيع العلاقات مع لندن في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية لمحاربة الإرهاب، بينما كانت لندن حاضرة منذ احتلال العراق مع التحالف الدولي، فما الذي تغيّر الآن؟
الأوضاع الاقتصادية زادت سوءًا وإن التعاون بين بغداد ولندن في مجال محاربة الإرهاب لا يضيف إلى العراق سوى استنزاف موارده في ظل انخفاض أسعار النفط العالمية وتداعيات جائحة كورونا، وليس من جدوى في هذا المجال ما لم يتفاهم العراق مع محيطه المحلي والعربي بعقلية أخرى، فلا يزال المهجّرون في خيامهم، وما تزال المحافظات التي دُمرت غير قابلة للتعمير، ولا تزال فلول داعش تظهر وتختفي بين الآونة والأخرى، فما الجدوى من تدريب القوات العراقية في الوقت الذي يصرح الكاظمي بأن العراق ليس بحاجة إلى القوات الأجنبية؟ كما أن الكاظمي لم يتطرق إلى الوجود الإيراني وهيمنته على مفاصل السياسة العراقية.
مما لا شك فيه، أن الخطط والمشاريع ومذكرات التفاهم عديدة بين العراق وكل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ولكن تطبيقها يبقى بعيدًا عن الواقع، لأنها ببساطة تحتاج إلى توفير بيئة صالحة للاستثمار في الوقت الذي يفتقر فيه العراق إلى البنية التحتية اللازمة لإقامة مثل هذا التعاون.
تبقى جميع هذه الاتفاقيات والعقود ومذكرات التفاهم حبرًا على ورق ما لم يتخلص العراق من الدولة العميقة التي تحرّك خيوط الاقتصاد والسياسة من وراء الكواليس، لكن حكومة الكاظمي المؤقتة ذات الصلاحية المحدودة، تطمح إلى تحقيق التوازن في العلاقات الدولية وتجاوز أخطاء الحكومات السابقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة