الدستور المصري المعدل
التاريخ الدستوري المصري هكذا لم يكن مستقرا طوال التاريخ المعاصر للدولة المصرية منذ نشأتها الحديثة سواء في العصور الملكية أو الجمهورية.
يوم الأربعاء ١٧ أبريل الجاري، وافق مجلس النواب المصري على مجموعة من التعديلات الدستورية بأغلبية ٥٣١ نائبا بنسبة ٨٩٪ من الأعضاء؛ بينما رفضها ٢٢ نائبا أو بنسبة ٤٪ تقريبا، بينما غاب عن جلسة الاقتراع ٤٣ عضوا بنسبة ٧٪. كان ذلك ارتفاعا في عدد المؤيدين للتعديلات، وانخفاضا في عدد المعارضين لها، والغائبين عن التصويت؛ ولكن الفجوة بين التأييد والمعارضة لا تخفي الانقسام الذي امتد من مجلس النواب إلى الشارع المصري، ودار حول السؤالين عما إذا كانت التعديلات الدستورية دستورية من الأصل، وعما إذا كانت تفاصيل التعديلات مناسبة لمقتضى الأحوال في مصر أم لا.
السؤال الأول خلق معركة دستورية، أما السؤال الثاني فقدم لمعركة سياسية بين المؤيدين الذين تشكلوا بالأساس من نواب "تحالف دعم مصر" مع أحزاب الوفد والمصريين الأحرار ومستقبل وطن، والمعارضين وهم مجموعة نواب ٢٥/٣٠ والحركة المدنية الديمقراطية، ودارت في قاعات مجلس النواب، والصحف، ووسائل التواصل الاجتماعي، ودخلتها باقتحام شرس جماعة الإخوان الإرهابية وتوابعها من الجماعات "الإسلاموية" الأخرى.
- البرلمان المصري: سنواجه الإرهاب بالتشريعات وتعديل الدستور
- برلمانيون مصريون: تعديلات الدستور تسهم في مكافحة الإرهاب
ومن المدهش أن المهاجمين من جماعة الإخوان والذين في حكمهم كانوا هم الذين خلقوا أثناء حكمهم ازدواجية في الحكم بين الدولة ومجلس الإرشاد، وقاموا بتعطيل الدستور كلية، وفوق ذلك قاموا بحصار المحكمة الدستورية العليا المنوط بها إصدار الأحكام الدستورية.
ولكن الجماعة لم تكن مشغولة بمدى أصالة التعديلات الدستورية، وإنما استخدام التعديلات من أجل نزع الشرعية عن السلطة المصرية، وفي لحظات بعينها تصورت أجهزة الإخوان أنها يمكنها استخدام "معركة الدستور" لتفجير الأوضاع في مصر، خاصة بعدما بدا أن الأحداث في السودان والجزائر يمكنها أن توفر محيطا "ثوريا" يدفع الجماهير إلى الشوارع والميادين.
والحقيقة أن الدعوة لتعديل الدستور لم تكن جديدة كل الجدة، بل إن صيحات للأخذ بها صدرت من أعضاء في البرلمان بمجرد الموافقة الشعبية على ما بات معروفا بدستور ٢٠١٤ الذي ترسخ من الذهن الجمعي أنه كان بدوره تعديلا جذريا لدستور ٢٠١٢ الذي وضعه الإخوان. أكثر من ذلك فإن الدعوات ركزت على وضع دستور جديد أكثر تقدميه وملاءمة للعصر، وظلت هذه الدعوة قائمة خلال المناقشات التي دارت بصدد تعديل الدستور الحالي. ونقلت صحيفة الأهرام الغراء يوم الخميس ١١ أبريل الجاري في الصفحة الأولى ما صرح به الدكتور علي عبدالعال، رئيس مجلس النواب، بأن "مصر في حاجة إلى دستور جديد"، وجاء ذلك خلال اجتماع اللجنة التشريعية لمناقشة مقترحات النواب حول التعديلات الدستورية، حيث ذكر "أنه لا مفر من كتابة دستور جديد" حيث إن مصر في حاجة إلى ذلك.
كان واضحا أن هذا التعليق يعبر عن رأي الأستاذ في القانون الدستوري وأحد أعضاء لجنة العشرة التي أعدت المخطوطة الأولى لدستور ٢٠١٤، خاصة أنه قال ما سبق في معرض تعليقه على ما ذكره النائب أسامة هيكل من أنه يتمنى "إعداد دستور جديد نظرا لوجود أخطاء عديدة في دستور ٢٠١٤"، حيث قال رئيس المجلس "إن دستور ٢٠١٤ فلسفته كانت المجلس النيابي الواحد". وفي الحقيقة أيضا فإن فكرة السعي إلى وضع دستور جديد بدلا من التعديلات الدستورية قد طرحت أثناء النقاش المجتمعي من طرفي الذين يقبلون بالتعديلات المطروحة من حيث المبدأ لأنهم لم يجدوا في التعديلات المطروحة ما يكفي لتحقيق التقدم والتطور الدستوري المطلوب نحو دولة مدنية، والذين يرفضونها من حيث المبدأ أيضا لأن الدستور القائم لم تمر عليه الفترة الكافية أو حتى تم تطبيقه بصورة كاملة بإصدار القوانين المكملة له.
والحقيقة كذلك أنه تاريخيا فإن "المسألة الدستورية" كانت جزءا من السياسة المصرية والتفاعلات التي جرت بين السلطة السياسية من ناحية والنخبة السياسية الأوسع من ناحية أخرى. فالدستور المؤسس للدولة المصرية وضع في عام ١٩٢٣، ولكن الملك فؤاد الأول أوقف العمل به ووضع دستورا آخر في عام ١٩٣٠ الذي سرعان ما جرى إسقاطه بثورة شعبية في عام ١٩٣٥ ليجري تجاوزه أكثر من مرة من قبل الملك فاروق حتى تم تعطيله عن العمل كليا بعد قيام ثورة الضباط الأحرار عام ١٩٥٢.
وشُكّلت لجنة وطنية لوضع دستور جديد جرى الانتهاء منه في عام ١٩٥٤ وتم تجاهله لصالح دستور آخر جرى فيه تثبيت الوضع الجمهوري للبلاد، وقيام نظام للحزب الواحد، وتثبيت الانفصال بين مصر والسودان، وعلى أساسه جرى انتخاب جمال عبدالناصر رئيسا للجمهورية في عام ١٩٥٦. ولم تكن الظروف رحيمة بالتجربة الدستورية المصرية، فقد أدت الوحدة المصرية السورية في عام ١٩٥٨ لوضع دستور آخر له طبيعة فيدرالية للاتحاد بين الإقليم الشمالي (سوريا) والإقليم الجنوبي (مصر)، ولكن الانفصال السوري عن مصر أدى إلى وضع دستور مؤقت في عام ١٩٦٥ كان نواة لما بات معروفا بالدستور "الدائم" في عام ١٩٧١ الذي كان أول الدساتير المصرية الذي حدد فترتين رئاسيتين لرئيس الجمهورية كل منهما ست سنوات.
ولكن الرئيس السادات كسر هذه القاعدة بتعديل الدستور عام ١٩٨٠ بأن جعل الفترات الرئاسية مفتوحة لكي يقرر فيها الشعب ما يراه، وأضاف إلى ذلك أن تكون الصحافة "سلطة رابعة"، ومعها إنشاء مجلس نيابي آخر تحت اسم مجلس الشورى، والأخطر كان تعديل المادة الثانية من الدستور لكي تجعل "الشريعة الإسلامية" "المصدر الرئيسي للتشريع".
هذا الدستور "الدائم" جرى تعديله بعد ذلك مرتين؛ الأولى في عام ٢٠٠٥ لكي تبدأ عهدا جديدا من الانتخابات الرئاسية التنافسية، وهذه جرى الإضافة لها وتعديلها مرة أخرى في عام ٢٠٠٧. وما أن نشبت ثورة يناير ٢٠١١ في مصر حتى جرى إجراء تعديلات دستورية عليها في مارس، ومع التعديلات صدر "إعلان دستوري" من قبل المجلس العسكري الحاكم لإدارة شؤون البلاد حتى يتم وضع دستور دائم آخر، وهو ما جرى تحت حكم الإخوان في يناير ٢٠١٢، وجرى تعديله كما أشرنا مرة أخرى في يناير ٢٠١٤ في أعقاب ثورة يونيو ٢٠١٣.
التاريخ الدستوري المصري هكذا لم يكن مستقرا طوال التاريخ المعاصر للدولة المصرية منذ نشأتها الحديثة سواء في العصور الملكية أو الجمهورية. والتجربة الجديدة في إجراء التعديلات شغلها الكثير من الأسئلة التي طرحت في مناسبات سابقة. وعلى سبيل المثال فإن التنويه بأن الدستور ليس نصا مقدسا، وأن تعديله من ثم ممكن لمسايرة المتغيرات الجارية؛ وكذلك فإن الاستشهاد بالتعديلات التي أجرتها دول أخرى، خاصة التعديلات على الدستور الأمريكي (٢٧ تعديلا) أصبحت دليلا على المرونة الضرورية في الدساتير المرعية. وهذه المرة، كما كان الحال في مرات سابقة، فإن التعديل لم يكن يختص فقط بأمور تتعلق بالسلطة السياسية وإنما امتد إلى قضايا أخرى.
وبينما حازت قضية تعديل النصوص الخاصة بفترات رئاسة الدولة، القدر الأعظم من النقاش والحوار، وأحيانا التنازع السياسي، فإن تعديلات أخرى كانت تطرح من القضايا ما دار حوله بعض من جدل مثل إعطاء حصة من مقاعد مجلس النواب قدرها ٢٥٪ للنساء، مع مراعاة عدد من الفئات الأخرى مثل المسيحيين وأصحاب الاحتياجات الخاصة اعتبارا خاصا، وإنشاء مجلس للشيوخ، وإعادة النظر في السلطة العليا المنظمة للقضاء، ودور القوات المسلحة في حماية الدولة الديمقراطية والمدنية.
هذه التعديلات جرى نشرها بالفعل، وكذلك دعوة الناخبين للاستفتاء عليها، ولكن ما يهم أنه وراء النقاش بشأنها كان يجري الخلاف السياسي ما بين أقلية تنتمي إلى ثورة يناير ٢٠١١، والأغلبية المنتمية إلى ثورة يونيو ٢٠١٣. ورغم أن الدستور المصري قد أقام رابطة بين الثورتين تقوم على رفض النظام الذي كان سابقا على الثورة الأولى، وكذلك رفض نظام الإخوان الذي أدى إلى الثورة الثانية، فإن جوهر الخلاف يقوم على مستقبل مصر وعما إذا كانت أيا من مبادئ الثورتين هي التي ينبغي لها أن تسود.
فأنصار أولوية الثورة الأولى يجدون في الوثيقة الدستورية ما يرتبط بنظام سياسي تعددي ليبرالي يتيح للمصريين الكثير من الحريات السياسية في التعبير وبالذات فيما يتعلق بقضية تداول السلطة، ومن ثم كانت مواقفهم من التعديل الذي أطال أولا الفترة الرئاسية ورفعها من 4 إلى 6 سنوات، كما أنه أعطى للرئيس الحالي فترة إضافية كاملة.
وبغض النظر عن مدى السلامة القانونية في الموضوع، فإن الهدف السياسي لهذا الطرف هو تغيير النظام الحالي، ولكن المدهش أن ذلك لم يتضمن رؤية متكاملة خاصة بأمور الأمن والتنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ربما خوفا من أن يؤدي ذلك عمليا إلى انقسام هذا التحالف.
على الناحية الأخرى، فإن أنصار ثورة يونيو يرون أولا أن المستقبل المصري يتحدد خلال هذه المرحلة التاريخية في عملية التنمية والبناء، وهو ما لن يتيسر إلا باستقرار النظام السياسي دون تقلبات كثيرة، خاصة أن تجربة العقد الحالي قادت في كثير من البلدان العربية إلى الانقسام والحرب الأهلية وظهور التطرف والإرهاب.
وثانيا أن الانطلاق من بين صفوف الدول المتخلفة إلى جانب الدول المتقدمة بمعدلات عالية للنمو هي حالة عرفتها الصين بعد الثورة الثقافية، ووفاة ماو، في عام ١٩٧٨ عندما قرر الحزب الشيوعي الصيني أن يخط للصين طريقا يدخلها إلى العصر الحديث تحت قيادة ديني تساو بينج. وفي ظروف مماثلة كانت هي الحالة التي عرفتها دول أخرى مثل سنغافورة في عهد لي كوان يو، وكوريا الجنوبية في عهد بارك، وروسيا مؤخرا تحت قيادة بوتين.
الأمثلة كثيرة، وكلها حالات عانت فيها البلاد من ظروف صعبة نتيجة ثورات أو حروب أو كليهما معا، وكان ضروريا بعدها إعادة البناء، وتحقيق الانطلاق من خلال إجراءات وقرارات صعبة هي الأخرى تغير الدولة وقدراتها ومواطنيها. مصر تنطبق عليها هذه الأوصاف التي توافرت فيها الفرصة لوجود قيادة سياسية قادرة على اتخاذ قرارات صعبة والمضي بالدولة كلها إلى الأمام. نتيجة الاستفتاء على الدستور أوضحت إلى أين تقف غالبية الشعب المصري.
aXA6IDE4LjIxOC43MS4yMSA= جزيرة ام اند امز