منذ تنصيبه في العشرين من يناير الماضي، يفتتح الرئيس جو بايدن حديثه في المنتديات الأمريكية المختلفة بالعبارة "لقد عادت أمريكا".
المعنى هنا واضح وضوح شمس صيف، وهو أن أمريكا كانت غائبة خلال الفترة التي حكم فيها الجمهوري دونالد ترامب، وخلال سنواته الأربع في الحكم فإنه كان حريصاً على تأكيد أن الولايات المتحدة عليها التراجع عن التورط في العالم، وأن تكون حريصة على نفسها حتى من حلفائها الذين يستغلون "كرمها" ويطالبونها بحمايتهم بينما يبخلون على أنفسهم في الإنفاق على الدفاع والأمن والقوة العسكرية.
أكثر من ذلك أن ترامب لم يكن حريصاً على فكرة "القيادة" الأمريكية للعالم، خاصة من الناحية القيمية الخاصة بالديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان التي رآها تعمي عيون أمريكا عن أخطار الاختلاط بالعالم غير المتقدم، والمعادي بالضرورة للدولة الأمريكية. ولذا فإن "عودة" أمريكا لم تكن فقط إشارة إلى عودة الديمقراطيين إلى الحكم، أو حتى عودة بايدن شخصياً إلى الإدارة، بعد أن كان نائباً للرئيس مع باراك أوباما، وإنما هي عودة إلى حزمة السياسات والمبادئ التي أرستها الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية وشملت إدارات ديمقراطية وجمهورية.
فلم يكن هناك فارق بين رئيس جمهوري أو ديمقراطي في السعي إلى جعل العالم سوقاً واحدة؛ وأن التحالف الغربي الذي يشمل دولاً رأسمالية في الأساس والواقعة في إطار حلف الأطلنطي أو الاتفاقيات الدفاعية المماثلة بين أمريكا واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا تمثل تجمعاً لقوى الخير في العالم والتي تقاوم قوى الشر فيه.
"العودة" هنا لا تمثل فقط الرجوع إلى الأيام الطيبة الأولى التي كان الديمقراطيون فيها يأخذون العالم إلى "العولمة" والشعوب والأمم إلى احترام "حقوق الإنسان"؛ وإنما كذلك التخلص من فلسفات وقيم "الدول القومية" المغلقة والبعيدة عن السوق العالمية للسلع والبضائع والأفكار أيضاً. ولذلك فإن الرئيس الأمريكي الجديد لم يكن فقط في حاجة إلى "المراجعة" أو "إعادة النظر" Review أو بكلمة أخرى "وقفة" Pause لسياسات سابقه الداخلية والخارجية، وإنما هو في حاجة إلى الاستعارة من الكمبيوتر وهو الذي عندما يُخْتَرق أو يعجز عن الحركة فإن المستخدم يلجأ إلى عملية إعادة التشغيل أو Resetting، وفحواها العودة إلى برامج التشغيل الرئيسية لكي تعود للعمل مرة أخرى، بعد أن تتخلص مما عطلها أو جعلها تعمل بلا كفاءة. في هذه الحالة تصبح سياسات ترامب انحرافاً عما كان اتجاهاً صحيحاً، وتكون العودة مرة أخرى إلى الأصول نوعاً من التصحيح.
ولكن الواقع الأمريكي يشير إلى أن فترة الرئيس ترامب لم تكن كلها عبثاً، وإنما كانت لها جذورها في الواقع الأمريكي، وبها آلياتها الخاصة والجديدة على التاريخ الأمريكي المعاصر. فالنقيض لسياسات بايدن لم يعد التيار الجمهوري المحافظ التقليدي الذي مثله بصفاء كبير الرئيس الأربعون للولايات المتحدة "رونالد ريجان"، ولا المحافظ الجديد الذي مثله الرئيس الثالث والأربعون جورج بوش الابن؛ وإنما بات تياراً محافظاً مختلفاً عن هذا وذاك والذي مثله الرئيس الخامس والأربعون دونالد ترامب، وخلال فترة رئاسته وضع الأسس لما بات يسمى "الترامبية" نسبة إليه.
و"الترامبية" تقوم على أيديولوجية القوميين البيض المختلطة بأفكار الكنائس الإنجيلية، وكثيراً ما تستخدم شعاراتها ورموزها للتمييز ليس فقط بين البيض والسود، أو البيض والآسيويين واللاتينيين، وإنما أيضاً بين الطوائف المسيحية المختلفة ومدى نفوذ كل منها في الولايات الأمريكية. وربما كان يوم السادس من يناير الماضي مفصحاً عن العناصر النقية للترامبية كحركة سياسية تشمل أكثر مؤيدي الرئيس السابق دونالد ترامب حماسة وعنفاً، بما في ذلك مجموعات مثل Proud Boys وOathkeepers وQAnon و3 Percenters وAmerica Firsters، يغطون أنفسهم بلغة الكتاب المقدس لتبرير أفعالهم. قال المراقبون إن الصلبان والأعلام وغيرها من المعروضات كانت الأمثلة على كيفية استشهاد الإرهابيين البيض عبر التاريخ، بما في ذلك الكو كلوكس كلان KKK، بالمسيحية لتبرير ما يزعمون أنه حقهم الإلهي في السيطرة على الأجناس والمجموعات العرقية.
"الترامبية" أيضاً في الممارسة خلال السنوات الأربع الماضية أضافت تمييزا آخر ضد الأقليات غير البيضاء خاصة السود واللاتينيين المهاجرين من أمريكا الجنوبية، وضد الأقليات الدينية مثل المسلمين وأحيانا اليهود أيضا رغم صلاتهم العائلية بالرئيس ترامب.
السؤال الكبير الذي ينظر في الفارق بين شعار "عودة أمريكا" وشعارات "الترامبية" يكمن في المدى الذي يمثل فيه "الحزب الجمهوري" التيار المحافظ الترامبي، خاصة بعد أن قامت قلة من النواب الجمهوريين (١٣ عضواً) بالتصويت على إقامة الاتهام على ترامب في مجلس النواب، وقلة أخرى (٧) بالتصويت على إدانته في مجلس الشيوخ. الحكم على ترامب ومدى شعبيته في الحزب الجمهوري جاءت أثناء مناسبة جمهورية بامتياز وهي انعقاد مؤتمر سنوي للمحافظين في الحزب Conservative Political Action Conference أو CPAC والذي حضر فيه أقطاب الحزب من جميع الاتجاهات. حصل ترامب أولاً على مبايعة ممن كانوا ينتوون السعي للحصول على ترشيح الحزب في الدورة الانتخابية المقبلة في ٢٠٢٤، مثل وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، وحاكم ولاية ساوث داكوتا كريستي نويم، والسيناتور الأمريكي تيد كروز وجوش هاولي، وهم يجرون الاختبار على دور تم ملؤه بالفعل، بينما في الوقت نفسه الذي يعلنون فيه عن ولائهم الراسخ لترامب، وفي الوقت نفسه الذي استعاد فيه تأييد ومبايعة ميتش ماكونيل زعيم المجموعة الجمهورية في مجلس الشيوخ والذي أدان ترامب من قبل في مسألة الهجوم على مبنى "الكابيتول". وثانياً حصل ترامب على التأييد الجماهيري وفي استطلاع سريع للرأي بعد المؤتمر حصل ترامب على ٥٥٪ من تأييد الحاضرين، وحصل من جاء في المركز الثاني على ٢١٪ والثالث على ٤٪.
في الواقع لم يكن هناك أمام ترامب منافس حقيقي للفوز بترشيح الحزب لعام ٢٠٢٤، ورغم أنه لم يعلن عن ترشيح نفسه رسمياً، فإنه أشار إلى وضع الأساس لحملة رئاسية، وفي خطابه طمأن ترامب "مؤتمر العمل السياسي المحافظ" بأنه ليس لديه أي خطط للرحيل أو لبدء حزب ثالث. وثالثاً أعاد ترامب رسم الحدود بين السياسة الأمريكية التقليدية التي يمثلها بايدن و"الترامبية" وكانت حجته الأساسية هي أنه أفضل مرشح يفوز في عام ٢٠٢٤ لأنه - حسب قوله - لم يخسر انتخابات ٢٠٢٠.
أمضى ترامب نحو نصف خطابه في تلاوة حجج عن تزوير الانتخابات الأخيرة، وقال ساخراً: "مَن يدري؟ ربما أقرر هزيمتهم للمرة الثالثة"، طارحاً انتقادات مطولة لإدارة بايدن الجديدة والعودة إلى القضايا التي حددت سنواته في البيت الأبيض، مثل الهجرة غير الشرعية والجدار الحدودي بين الولايات المتحدة والمكسيك، وكل ما وضع الأسس لفلسفة ترامب في السياسات الداخلية والخارجية والتي خالفها بايدن من خلال خمسين قراراً رئاسياً تنفيذياً.
ورابعاً، وربما كان ذلك أهم ما فعله ترامب في مواجهة بايدن أنه كسر مرة أخرى التقاليد الأمريكية لسلوك الحزب المهزوم في الانتخابات الرئاسية، حيث يترك الحزب للرئيس الجديد فرصة المائة يوم على الأقل لكي يمتلك الساحة الإعلامية والسياسية، وبعدها فإن الانتظار يكون ضرورياً من أجل أن يقوم الحزب بمراجعة موقفه الانتخابي بما فيه دراسة أسباب الهزيمة، والبحث عن حزمة من المرشحين للنظر فيمن يكون الأصلح لتمثيل الحزب والفوز في الانتخابات القادمة. وأحياناً ما يأخذ قادة الحزب وكبار مموليه أنفسهم إلى مؤتمر مصغر Retreat للاستعداد أولاً للانتخابات النصفية القادمة في ٢٠٢٢؛ وثانياً فرز القائمة الصغيرة التي يسعى الحزب بعد ذلك للاختيار من بينها في الانتخابات التمهيدية. ترامب تخطى كل هذه المراحل، وإذا كان بايدن قد عاد بأمريكا مرة أخرى، فإن ترامب والترامبية يأخذون في الاستعداد للعودة مرة أخرى!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة