يحذر وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب من أن "داعش" لا يزال حتى الآن أكبر تهديد إرهابي للبلاد داخلياً وخارجياً.
يشعر راب بالقلق من زيادة بنسبة 7% في حجم المحتوى الإرهابي على الإنترنت، وارتفاع عدد الأطفال والمراهقين المعتقلين بسبب جنح إرهابية في المملكة المتحدة خلال العام الماضي. أما السبب فهو بحسب الوزير طبعاً، استغلال التنظيمات الإرهابية كداعش لإغلاق وباء كورونا في تجنيد مشاريع المتطرفين المنتشرين على الفضاء الرقمي، إن جاز التعبير.
ليس الوزير فقط في بريطانيا من يقول إن الإغلاق يساعد "داعش" على استقطاب مَن يميلون إلى روايته. هناك نواب ومختصون لديهم المخاوف ذاتها، وهم يحذرون الحكومة والبرلمان من تداعيات استمرار الإغلاق على هذا المستوى. الأمر ذاته طبعاً ينطبق على جميع الدول الأوروبية والغربية التي تحارب الجائحة عبر حظر العمل والخروج من المنزل لممارسة أي أنشطة قد تساعد الإنسان على التوازن النفسي والعقلي، وبالتالي تجنب الانجراف وراء تلك الخزعبلات والأوهام والأفكار المتطرفة.
المشكلة الحقيقية في الإغلاق بالنسبة للسلطات الأمنية في بريطانيا أو غيرها أنك لا تستطيع معرفة الإرهابي إلا عند تنفيذه لجريمته. فإذا لم يكن لديه سوابق في ممارسات أو سلوكيات توحي أو تنذر بذلك، ستجد نفسك فجأة أمام مجرم يطعن مارة أو يصدمهم بسيارة. لا يوجد خيوط تتعقبها كي تتوقع تحول هذا الشخص إلى إرهابي، لأنه ببساطة تلقى الأفكار المظلمة والتعاليم العدائية عبر الإنترنت، بينما كان يجلس في غرفته، ثم أخذ سكيناً من المطبخ، أو قاد سيارته ليقتل "الكفار" في شارع مزدحم.
الإغلاق سبب عزلة لكثيرين، والعزلة تجعل الإنسان هشاً أمام الهواجس التي تلامس شيئاً ما بداخله. فإن تعرض متعصب أو جاهل لأفكار متطرفة بشكل متواصل وخبيث كما يفعل الدواعش، فإنها ستحتويه بسهولة وتحيله إلى إرهابي مستعد لارتكاب الجريمة خلال دقائق، خاصة إن كان يعيش وحيداً أو وسط عائلة لا تكترث، أو في بيئة حاضنة لأفكار التطرف ومنتجة لمشاريع الإرهابيين الحالمين بالموت.
مثل هذه البيئة الخصبة للداعشية تجسد المنبع الأساسي للإرهاب، وليس المناطق الجغرافية التي كان التنظيم يحتلها في سوريا والعراق. لذلك تتصاعد التحذيرات مؤخراً من أن داعش لم ينتهِ ومن المرجح عودته إلى مهاجمة العواصم والمدن والمناطق. سواء عبر مجموعاته المتخفية في سوريا والعراق وليبيا وغيرها بدول الشرق، أو عبر ذئابه البشرية المنتشرين بكثرة في الغرب، خاصة أن مصادر تمويله لم تنضب بشكل كامل، وقد أتيحت له الفرصة للملمة أوراقه وسط انشغال العالم بالجائحة.
قبل نحو شهر تقريباً خرجت الأمم المتحدة بتقرير يقول إن تنظيم داعش لديه نحو 100 مليون دولار من الاحتياطي النقدي، وعشرة آلاف مقاتل في سوريا والعراق. تؤكد المنظمة الأممية أن التنظيم الإرهابي حصل ويحصل على أموال من الخارج عبر شبكات مالية غير رسمية، كما أنه يجمع أموالاً من الدول التي ينشط فيها من خلال عمليات الخطف والفدية، هذا بالإضافة إلى أن جهات خارجية تسعى إلى إعادة الحياة للدواعش واستغلالهم في تحقيق أطماع خاصة في مناطق الصراع حول العالم.
نائبة إيزيدية سابقة في البرلمان العراقي كانت تتحدث قبل أيام على شاشة إحدى الفضائيات عن أن نحو 3 آلاف 500 إيزيدية تحررن من التنظيم الإرهابي حتى الآن، وكلهن عدن مقابل أموال طائلة دفعت للدواعش وليس عبر عمليات تحرير نفذها الجيش أو قوات التحالف الدولي. هذه الأموال مصدر أساسي لاستمرار داعش برجاله ونسائه وأطفاله الذين لم يقتلوا أو يعتقلوا في المعارك التي شنها العالم عليه بين 2017 و2018، وإنما اختفوا بين ليلة وضحاها وانتشروا بين سوريا والعراق.
الأخطر من الدواعش المختبئين في المناطق النائية بين الدولتين، أو الذين ينشرون التطرف عبر الإنترنت، هم أولئك الأطفال والمراهقون الذين يعيشون في المعتقلات مع ذويهم من عناصر التنظيم في سوريا. هؤلاء يكبرون بين بالغين ناقمين ومتطرفين في الوقت ذاته، فيتحولون تدريجياً إلى إرهابيين لا يمكن محاورتهم، ولن يقبلوا بغير لغة القتل في التعامل مع العالم الخارجي "المتآمر" عليهم بمنطق ذويهم.
ليس كل دول القارة العجوز تدرك خطر هؤلاء، وبعضهم لا يقتنع بإمكانية إعادة تأهيلهم ودمجهم في المجتمع مرة أخرى. هم يظنون أن الجيل الذي أنتجه داعش خلال بضع سنوات ينتمي فقط لسوريا والعراق، ولذلك يجب أن يعيشوا ويحاكموا سجناً أو قتلاً هناك. جل ما يمكن لهذه الدول فعله هو توفير الدعم من أجل تعزيز إجراءات الأمن للسجون التي تضم الدواعش، وتشجيع حكومتي دمشق وبغداد على إقامة محاكمات خاصة بهم، للفصل في مصيرهم بين الموت أو الاعتقال المؤبد ربما.
ثمة مصادر تتحدث عن زيارة وفود عسكرية بريطانية إلى سجون الدواعش التي تديرها "قسد" خلال فبراير/شباط الماضي، وهذا يتزامن مع إعلان القوات الأمريكية نيتها توسيع واحد من هذه السجون في مدينة الحسكة شرق سوريا بتمويل بريطاني. هذا السجن يضم أكثر من 300 داعشي لا تتجاوز أعمارهم أكثر من ستة عشر عاماً، ويبدو أن الأمريكيين والبريطانيين يريدون لهم إقامة طويلة هناك، ويسعون لضمان عدم عودة من ينتمون بينهم إلى القارة العجوز والغرب عموما إلى دولهم.
لا تزال المملكة المتحدة من أكثر الدول الأوروبية تشدداً في التعامل مع عودة البريطانيين الدواعش وأولادهم، وما رفض المحكمة العليا مؤخراً لعودة مَن تسمى "عروس داعش" إلى البلاد للطعن في سحب جنسيتها، إلا دليل على هذا التشدد الذي يعكس إلى حد بعيد المزاج الشعبي العام في هذا الشأن، خاصة في ظل قيادة حزب المحافظين الذي يسعى إلى إلغاء الإفراج المبكر عن السجناء المتطرفين في بريطانيا، فما بالك بالدواعش الذين يعيشون في المعتقلات فوق الأراضي السورية والعراقية.
تقول الأرقام الرسمية إن عدد المعتقلين بتهم التطرف الإسلاموي في بريطانيا وصل إلى 156 شخصاً عام 2020، نحو 47 منهم حُكم عليهم من عام إلى أربعة أعوام، وهذه أخبار مقلقة بالنسبة لدولة تعرضت لعمليتين إرهابيتين نفذهما متطرفان أطلق سراحهما مبكراً بين نوفمبر 2019 وفبراير 2020. أما المقلق أكثر فهو ارتفاع عدد المتطرفين المعتقلين دون الثامنة عشرة العام الماضي إلى 19 شخصاً مقارنة بـ12 عام 2019، ولهذا تعتقد الحكومة أن خطر "داعش" في تجنيد الشبان والمراهقين خلال إغلاق كورونا أمر لا يجب تجاهله أو الاستخفاف به.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة