يبدو أنّ التساؤل حول إدارة الرئيس الأمريكيّ جوزيف بايدن والشرق الأوسط سوف يظلّ مطروحًا لفترة ليست قصيرة.
لا سِيّما في ظلّ ما يمكن أن يكون ارتباكًا وتخبُّطًا واضحَيْن، تَبَدَّيا في أوّل شهرَيْن من عمل فريق بايدن، حيث أوفى لأعداء أمريكا التقليديّين في المنطقة ويسارع إلى إرضائهم، ويكاد المرءُ يقطع بأنّه سيخلف للأصدقاء والحلفاء طوال سنواته الأربع القادمة.
هل يملك بايدن استراتيجيّة بالفعل للتعامل مع الشرق الأوسط؟
قبل الجواب، ربّما يتحَتّم علينا العودة ولو سريعًا إلى مراحل تلك العلاقة، والتي تعود إلى النصف الأوّل من القرن الماضي، وغداة نهاية الحرب العالميّة الثانية بنوعٍ خاصّ. وقد ساندتْ الإدارات الأمريكيّة وقتَها بنوعٍ أو بآخر حركاتِ التحَرُّر العربيّة ضدَّ الاستعمار البريطانيّ والفرنسيّ والإيطاليّ، ما جعلها علاقات متميّزة إلى حدٍّ كبير.
شهدتْ ستينيّاتُ القرن الماضي وفي بدايتها، أيْ زمن جون كيندي آمالاً عريضة في إنهاء الصراع العربيّ الإسرائيليّ، غير أنّ اغتياله ومجيء جونسون أسدلا الستارَ على تلك الفترة، وتجَلَّى العداءُ للشرق الأوسط ودُوَلِه واضحًا جدًّا في حرب الستة أيّام.
تغَيَّر المشهدُ بشكل كبير بعد زيارة السادات للقدس ومسيرة كامب ديفيد التي توصَّلَت إلى اتّفاق سلام، لتبدأ ثلاثةُ عقودٍ كانت فيها لحظاتُ صفاء وأخرى جفاء، فمن توَحُّدٍ حول حرب تحرير الكويت إلى اختلاف حول غزو العراق، وصولاً إلى تعاون في مواجهة الإرهاب، ثمّ خلاف شديد بسبب دعم إدارة أوباما لجماعات الإسلام السياسيّ، والتي قادت زمن الربيع العربيّ المغشوش، فيما شهدتْ سنواتُ إدارة دونالد ترامب الأربع الماضية نوعًا من الهدوء النسبيّ بالنسبة لعدد من المَلَفَّات، في مقَدِّمها عدمُ اعتبار واشنطن نفسها سَيِّدة قيصر التي لا تُخطِئ، أو القيام بدور شرطيّ العالم ودَرَكِه، لمحاسبة ومعاقبة من يخطئ لا سِيَّما في مجال القضايا الحقوقيّة الإنسانيّة، وإن ظَلَّ هناك خلافٌ واسع وشاسع لجهة القضيّة الفلسطينيّة، وما أعلنه ترامب بشأنها، وبخاصة الاعتراف بالقدس عاصمةً مُوَحَّدةً لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكيّة إليها، عطفًا على الإقرار بسيادة إسرائيل على الجولان.
وبالعودة إلى التساؤل المُتقَدِّم، لا يبدو أنّ الرئيس بايدن لديه رؤية واضحة للشرق الأوسط، ولا للخليج العربيّ، وجُلُّ ما نراه هو اندفاع محموم غير مُبَرَّر تجاه إيران التي تَعِيثُ في المنطقة اضطرابًا، وتقف من السياسات الأمريكيّة موقفَ الضّدّ، وتسعى جاهدةً للتمكين النوويّ، لتكون القُوَّة الإقليميّة المهيمنة في المنطقة، في مواجهة قُوى أخرى لا تغيب عن الأعين.
وفيما يمضي في هذا السياق، يبدو أنّه في طريقه لأن يتَنَكَّر للأصدقاء والحلفاء الموثوقِين للولايات المُتَّحدة في الخليج العربيّ وشمال أفريقيا، مدفوعًا في هذا السعي بتوَجُّهات التيَّار الديمقراطيّة اليساريّ، والذي يمكن اعتباره القُوَّة الضاربة في الحزب الديمقراطيّ في حاضرات أيّامنا، ولا نغفل الدور الماورائيّ للتيَّارات الإسلامويّة الإخوانيّة المخترقة وزارة الخارجِيَّة الأمريكيّة، تلك التي خَلَّفتْها من ورائها سنواتُ أوباما الثماني، وأزكت نيرانها هيلاري كلينتون حَتَّى الساعة.
ما نراه من تفكير بايدن شرق أوسطيًّا في الأسابيع القليلة الماضية لا ينمُّ عن أنّ الرجل وإدارته لديهم رؤية واقعيّة أو استراتيجِيَّة حقيقيّة للتعامل مع دول المنطقة، بل إنّ الحقائق نفسها غائبة وغائمة عنهم، وتوقُّفهم عند التكتيكات يكاد يلهيهم عن الاستراتيجيّات.
خُذْ على سبيل المثال نظرتهم للحوثيّين في اليمن أوّل الأمر، ذلك أنّه لم يشاغبْهم الدور الإرهابيّ للحوثيّين الذين يُهدِّدون صباحَ مساءَ كلّ يوم المنطقةَ والبحر الأحمر، وتذَرَّعوا بالحالة الإنسانيّة والمجاعة، في حين أنّ الحوثيّ الذي يضع يده على ميناء الحُدَيْدة هو السبب الرئيسي في الاستيلاء وسرقة المساعدات الاقتصاديّة الأمميّة المُوجَّهة لليمن، بمعنى أنّه الجاني وليس الضحِيّة. ومع ذلك، بدا أنّ أوّل تَوَجُّه لبايدن وفريقه هو رفعُ اسم الحوثيّ من قوائم الإرهاب الدوليّة حيث صَنَّفتْهم إدارةُ ترامب.
ولعلَّ التخَبُّط الأمريكيّ الواضح في أشهر بايدن القليلة، هو ما دفع واحدة من أهَمِّ مُؤَسَّسات الفكر الأمريكيّ، مؤسسة راند، للإسراع بنصح الرئيس الأمريكيّ كي يُغيِّر من استراتيجيّته للشرق الأوسط إن كانت لديه استراتيجيّة بالفعل.
لماذا مؤسسة راند تحديدًا هي التي بادرت بنوع خاصٍّ لتقديم النصح لبايدن، من دون بقِيَّة مراكز الفكر الأمريكيّ؟
باختصارٍ غير مُخِلّ، تُعَدّ المؤسّسة من أكبر وأقدم منظَّمات الأبحاث التي تُقدِّم خدماتها لمختلف أفرع القُوَّات المُسلّحة الأمريكيّة، ومكتب وزير الدفاع، ويرجع إليها الفضل في أنّ وكالات الدفاع والاستخبارات الأمريكيّة بعد أن كانت تركز حاجتها البحثيّة حصريًّا فيما يتعَلَّق بالمواضيع الإقليميّة والوظيفيّة، أصبحت تشارك في معالجة التحدِّيات الجديدة في مجالَيْ الإرهاب والأمن القوميّ.
تدرك مُؤسَّسةُ راند القيمةَ الفائقة الأهمّيّة لتحالفات واشنطن مع دول الشرق الأوسط والخليج العربيّ، من مصر إلى السعوديّة فالإمارات العربِيّة المُتَّحدة، ثمّ بقِيّة دول الخليج، والتي كانت طوالَ سنوات الحرب الباردة سَدًّا منيعًا في مواجهة حلم السوفيت في التقَدُّم للمياه الدافئة، ومن جهة ثانية ترى راند أنّ دول المنطقة لعبَتْ ولا تزال دورَ الشريك الوفِيّ في محاربة الإرهاب الذي دفعَتْ أمريكا ثمنَه ذاتَ نهارٍ، نحو ثلاثة آلاف من أرواح أبنائها، ناهيك عن اهتزاز صورتها في أعين العالم كقوة ضاربة .
تقرير راند يحمل من جهة خفِيّة تحذيرًا لإدارة بايدن، والتي تبدو أنّها ماضية قُدُمًا في طريق إدارة أوباما السابقة، بمعنى القيادة من وراء الكواليس من جهة، والتنَطُّع بالوقوف عند الجزئِيّات غير المفيدة لواشنطن، فيما الاستراتيجِيّات الكبرى ضائعة في وسط التفصيلات الصغيرة.
تطالب راند في تقريرها الأخير إدارة بايدن بالتركيز على التنمية وحسن الإدارة، بل وتنصح واشنطن بالتعاون مع بكين وموسكو في هذا الشأن. وهنا فإنّ علامة استفهام ترتفع في الأفق: "كيف يمكن أن يحدث ذلك؟".
المعلوم من خبراء راند هو أنّ الكثير من مُربَّعات نفوذ واشنطن خلال عقد الثورات المكذوبة عربيًّا، قد تَمَّ تفريغُها لصالح روسيا والصين، ومع توَجُّهات إدارة بايدن المزعجة للأصدقاء العرب حتمًا سيسارع الصينيون والروس إلى تقديم البدائل، سواءٌ كان الدعم السياسيّ في المحافل الدوليّة، وبخاصّة في مجلس الأمن أو تقديم أفضل وأنفع صفقات السلاح التي تفتح أسواقها للمشترين العرب وبعيدًا عن المنح والمنع الأمريكيّين، وصولاً إلى التحَكُّم في أسواق الطاقة لصالح شرق آسيا، وجميعها أوراق ضغط يمكن بالفعل أن تُؤثِّر على مستقبل الحضور الأمريكيّ في المنطقة.
غياب الاستراتيجيّة عند إدارة بايدن لا يوفر إسرائيل، ولهذا تمضي تلّ أبيب في طريق بلورة رؤية مستقلّة عن واشنطن- بايدن، وتحديدًا فيما يخصّ المواجهة مع إيران.
الخلاصة.. على إدارة بايدن إعادةُ قراءة موقفها من الشرق الأوسط قبل أن تخسر الأكثر من أزمنة نفوذها التاريخيّ في المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة