سوف تظل الصين هي التحدي الاستراتيجي الرئيسي الذي يهدد مكانة الولايات المتحدة ودورها في العالم.
وهو التحدي الذي استمر على مدى سنوات إدارات أوباما وترامب وبايدن. اختلفت مظاهر التعبير عن سياسة أمريكا تجاه الصين، ولكن هدفها جميعا كان واحداً وهو تحجيم دور الصين والضغط على الدول الحليفة للتقليل من تعاملاتها معها.
يرجع ذلك إلى الصعود الكبير والسريع للصين، وإلى الإنجاز الذي أحرزته في مجال التكنولوجيا المتقدمة في كل المناحي الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وإلى أنها تمتلك عناصر القوة الشاملة للدولة التي تضمن استمرار تقدمها، وأن لديها رؤية مختلفة للنظام الدولي والعولمة وأنها تسعى لإقامة نظام دولي جديد. أضف إلى ذلك، تحالفها مع روسيا والذي ظهر مؤخراً في التنسيق بين البلدين لمنع صدور قرار من مجلس الأمن يُدين الانقلاب العسكري في ميانمار، ناهيك عن فرض عقوبات على القائمين به.
وتجلَّى الموقف الأمريكي المُعادي للصين في التصريحات التي أدلى بها كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية الجديدة، وتحديداً "وليم بيرنز" المرشح لمنصب مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، و"أنتوني بلينكن" وزير الخارجية، والرئيس بايدن نفسه.
فإذا بدأنا بوليم بيرنز الذي كان أكثرهم صراحةً ووضوحاً في شهادته أمام لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ، فقد جاء فيها أن الصين هي التحدي الجيوسياسي الأكبر لأمريكا، ووصف القيادة الصينية بأنها "مفترسة" وأن الرئيس الصيني "شي جين بينغ" يتبع بشكل علني سياسة طموحة وحادة وعدوانية، وهو ما يكشف شكل الخصم الذي على أمريكا مواجهته. واتهم الصين بسرقة حقوق الملكية الفكرية الأمريكية، والسعي للتغلغل في داخل المجتمع الأمريكي وزيادة نفوذها فيه. واستخلص من ذلك، أن متابعة الصين وجمع المعلومات عنها سوف يكون المهمة الرئيسية لوكالة المخابرات المركزية بهدف "إخراج الصين من المنافسة" معتمداً في ذلك على سلاحيْ تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي.
أما وزير الخارجية "أنتوني بلينكن" فقد كان أكثر دبلوماسية، فأشارت تصريحاته إلى قضايا الخلاف المعروفة بين البلدين كحرية التجارة واحترام حقوق الإنسان. وقام بإجراء اتصال تليفوني مع نظيره الصيني في 6 فبراير أكد فيه التزام واشنطن بالدفاع عن حقوق الإنسان في التبت وهونج كونج ومقاطعة شينجيانج، وهي المقاطعة التي تعيش فيها أغلبية مسلمة من الإيجور، وحذره من محاولات الصين تهديد الاستقرار في المحيطيْن الهادئ والهندي، وفي مضيق تايوان. ثم انتقد في حوار له مع شبكة بي بي سي البريطانية افتقاد الصين للشفافية وعدم كشفها عن طريقة نشوء فيروس مرض كورونا.
وفي ذات السياق، تعكس تصريحات بايدن إدراكه العميق بخطورة التحدي الصيني، فقال مرة إن التفوق على الصين هو المهمة الرئيسية للحفاظ على الأمن القومي الأمريكي في العقود القادمة. وحسب تقديره، فإنه لا يرغب في الانخراط في صراع مع الصين، ولكن سوف تكون هناك منافسة شديدة الوطيس معها. فقام بإجراء مكالمة تليفونية طويلة قيل إنها استمرت لمدة ساعتين مع نظيره الصيني في 10 فبراير الماضي. وفي أعقابها، كتب في تغريدة أنه سوف يتعاون مع الصين وسيتبنَّى الإجراءات العملية التي تحقق مصالح الشعب الأمريكي وحلفائه. وحسب بيان البيت الأبيض عن المكالمة، فإن بايدن أشار إلى القلق الأمريكي من ممارسات الصين التجارية غير العادلة، مؤكداً على ضرورة احترام قواعد حرية التجارة، وأنه ناقش موضوع حقوق الإنسان في مقاطعة شينجيانج وهونج كونج، وقضية توتر العلاقات مع تايوان.
أما البيان الصيني فقد أشار إلى أن الزعيمين ناقشا بعمق العلاقات الثنائية بين البلدين وأهم القضايا الإقليمية والدولية، مُشيراً إلى أن التعاون بين البلدين يجلب النفع العميم لهما والعالم أجمع، بينما يؤدي التوتر بينهما إلى نتائج كارثية عليهما وعلى العالم.
في نفس الأسبوع، نبَّه بايدن الأمريكيين إلى الإنجازات التي تحققها الصين في مجال النقل وتحديداً في صناعة السكك الحديدية والسيارات الكهربائية، وأن تقدمها في هذا المجال يمكن أن يهزم الولايات المتحدة في مجال البنية التحتية، وقال بالنص "إذا لم نتحرك، فسوف يأكل الصينيون غذاءنا".
تشير هذه التصريحات إلى أن إدارة بايدن تعتبر الصين التحدي الأكبر والمنافس الأول لسياستها الخارجية، ولكن دون الدخول في صراع مكشوف معها، وذلك بحكم ثقل الصين الدولي والمصالح المشتركة التي تجمع البلدين. لذلك، فمن الأرجح أن تتبع واشنطن سياسة تقوم على ركيزتين هما التنافس والتعاون، فتقوم بالتنافس في المجالات الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية، وبالتعاون في القضايا الدولية كالبيئة والمناخ ومنع انتشار الأسلحة النووية ومحاربة الإرهاب، وأن لا تقوم بذلك بشكلٍ انفرادي ولكن من خلال موقف جماعي يضم أكبر عدد من الحلفاء الأوروبيين والآسيويين، وأن تعطي الانطباع بأنها تقوم بذلك من موقع القوة.
يدرك بايدن أيضاً أن هذه السياسات لن تؤتي ثمارها بدون تعاف سريع للاقتصاد الأمريكي، وإحياء البنية التحتية الصناعية والتكنولوجية. وهذه هي المهمة الصعبة التي عليه أن يتصدى لها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة