تميل بعض الأزمات إلى التفسخ لأن المنتصر لا يكتفي بانتصاره، ولأن المهزوم لا يعترف بالهزيمة، فتتحول من صراع سياسي قابل للتسوية إلى حلبة مصارعة لا تنتهي إلا بسحق الآخر.
قبل أن تنظر إلى الأزمة في السودان كيف انتهت إلى حرب "حياة أو موت"، انظر إلى الصراع الشرس الذي يخوضه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وغير هذين المثالين هناك الكثير أيضا.
لم يعترف ترامب أبدا بهزيمته. وزاد الطين بِلّة عندما حرّض أو ساهم في التحريض على اقتحام الكونغرس في 6 يناير 2021 بحشد من الغوغاء المناصرين له، والمعادين للنظام من الأساس، ثم عاد فارتكب ما يُنظر إليه الآن على أنه ارتكابات جنائية.
وهناك مخاوف قائمة من تحول محاكماته إلى أعمال عنف، مما يستدعي اتخاذ احتياطات أمنية خارجة عن المألوف. وما من أدنى شك، بأن الوقت قد فات تماما على إقناع ترامب بالتراجع، حتى ولو وُضعت أمامه كل الأدلة التي تُثبت أنه خسر الانتخابات في العام 2020، وأن كل ما يفعله خارج عن المنطق.
ترامب لن يتراجع، لأن النكران، بحد ذاته، قد اكتسب زخما خاصا به، وتحوّل إلى منفعة قائمة بذاتها، وصار يوفر نوعا من جدار حماية يصد كل الحقائق، ولا يأبه بها ولا بعواقبها على الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
المنتصر لم يكتف بانتصاره. فبطريقة أو أخرى، أخذ الرئيس جو بايدن الأمر من زاوية أن الانقسام الجاري داخل الحزب الجمهوري سائر في الطريق لكي يتحول إلى "حرب أهلية" تمزق هذا الحزب وتبعده عن السلطة لما لا يقل عن عقد من الزمن. على الأقل إلى أن تنهار "ظاهرة ترامب"، عندما يختفي ترامب من الوجود.
ولكن هذه "الظاهرة" لا تقتصر على ترامب. لقد تحولت إلى تيار سياسي لا ينكر هزيمة ترامب وحدها، ولكنه ينكر التغير المناخي وينكر وجود وباء كورونا، ويستنكر الحاجة لارتداء كمامات، ويستعدي الصين على أسس عنصرية، ويحتقر الاتحاد الأوروبي، ويؤمن بنظرية المؤامرة، وغير ذلك.
لم يعد الرئيس بايدن يرغب بهزيمة ترامب أو سحقه. صار يرغب بهزيمة الحزب الجمهوري وسحقه. وهو يترشح للرئاسة من جديد، لكي يكمل الفصل التالي من المعركة. وما كان معركة "شخصية"، أصبح معركة "حياة أو موت" لحزبين ينحدران بصراعهما التقليدي إلى حلبة غير تقليدية، ليكون صراعا ضاعت بداياته، لتضيع نهاياته أيضا.
الشيء نفسه يحصل في السودان. فبعد كل ما تم التوصل إليه من اتفاقات لإعادة السلطة إلى المدنيين، فقد دار الصراع دورته الكاملة ليتحول إلى حرب ضد أولئك المدنيين أنفسهم الذين كان يتوجب أن تعود السلطة إليهم.
لم يعد مهما ماذا يحصل لملايين المواطنين الذين حوصروا وسط تقاطع النيران. لم تعد حياة الناس تعني شيئا على الإطلاق. ومثلما ضاعت السياسة في حمى المعارك الدامية، فقد ضاعت جهود التسوية، التي بذلتها كل الأطراف الإقليمية والدولية التي اعتقدت أن السياسة يمكن أن تعود لتشتغل، فتؤدي إلى حل الأزمة.
ولقد تم التعبير، بوضوح شديد في الكثير من الأحيان، على أن الحرب الجارية لن تنتهي إلا بسحق الطرف الآخر، لأنها أصبحت حرب "حياة أو موت". ولو أن هذا الطرف تم سحقه بالفعل، فإن "الانتصار" المنتظر لن يتوقف عند هذا الحد. إذ سوف تتبعه تصفيات، لا تسويات. وهو ما يمثل جوهر سقوط جثة السياسة من الطابق العاشر إلى مستنقع التفسخ التام.
جماعة الإخوان المسلمين التي هيمنت على السلطة في عهد الرئيس المخلوع عمر حسن البشير، لم تعترف بالهزيمة أمام انتفاضة الناس ضد نظامه. لم تعترف، في الأساس، بأنها جلبت الخراب للبلاد. ولم تقبل التغيير، فظلت تتآمر عليه، من داخل مؤسسة الجيش التي تغلغلت إليها، وصنعت بعض كبار ضباطها، وأخفت ارتباطهم بها إلى "ساعة الشدة". وبعد الكثير من المناورات وأعمال التسويف، دارت الدورة كاملة على الحوار بين السلطة العسكرية وبين قوى الحراك المدني، إلى أن انقلبت إلى حرب شاملة، تهوي بالسودان إلى مستنقع الانقسام.
وساعة بدا أن التغيير ضد سلطة البشير، قد حقق انتصارا، فإن بعض أطراف العملية السياسية لم يكتفوا بالنصر. وبدلا من أن ينجزوه على مستوى المؤسسات، فقد انشغلوا بالدعوات إلى الانتقام.
تصفية بقايا النظام السابق، كانت وما تزال حقا مشروعا لملايين الذين عاشوا عقود قهره العقود الثلاثة. إلا أن هذا الحق كان يستلزم أن يُمسك بأركان القوة أولا. وإذ لم تكن فلول النظام السابق تجهل هذه النتيجة، فقد حاربتها من قبل أن تتحقق، لتسقط البلاد في مستنقع التحلل التام، على صراع ضاعت بداياته، لتضيع نهاياته أيضا. حتى ليبدو التفسخ وكأنه يعني خرابا في النصر والهزيمة معا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة