تتحرك الإدارة الأمريكية في اتجاهات جيواستراتيجية متعددة عدة ليس فقط تجاه القارة الأفريقية،
كما هو واضح في القمة التي عقدت في واشنطن بحثا عن تنفيذ لإستراتيجيتها الجديدة في مناطق متعددة من العالم، ولتحقيق الهدف من القمة العمل على تحسين التعاون مع القادة الأفارقة، والتعاون معهم في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي تواجهها القارة حيث تعمل الإدارة الأمريكية على تنفيذ مرتكزات محددة أهمها الدخول في دوائر الصراع على أفريقيا مع كل من الصين وروسيا، وانطلاقا من حقيقة واحدة ومباشرة، أهمها ضرورة تحقيق مكاسبها الكبرى في مناطق أهملتها كثيرا تحت مسمي ترتيب الأولويات السياسية والإستراتيجية، وهو ما أدى إلى سلبيات عدة للولايات المتحدة في مناطق منها أفريقيا والشرق الأوسط، وجنوب الساحل والصحراء، ومناطق أخرى في ظل تراجع التبادل التجاري بين الولايات المتحدة، ودول القارة في فترة حكم ترامب، من 142 مليار دولار إلى 64 مليار دولار فى عام 2021، في حين وصل التبادل التجاري بين إفريقيا والصين إلى 200 مليار دولار.
وقد اكتسبت أفريقيا كثيراً من الاهتمام منذ القمة الأمريكية - الأفريقية الأولى التي استضافها الرئيس باراك أوباما في عام 2014 واستهدفت في مجملها دفع الأولويات المشتركة، وتوفير فرصة لتعزيز تركيز إدارة بايدن على التجارة والاستثمار في أفريقيا، وتسليط الضوء على التزام أمريكا بأمن أفريقيا، وتطورها الديمقراطي، ويشار في هذا الإطار إلى أن هناك 4 دول أحدثت تغييرات غير دستورية للحكومة، وإثر ذلك تم تعليقها من الاتحاد الأفريقي، وهي: غينيا والسودان ومإلى وبوركينا فاسو، ومن ثم لم تشارك في فعاليات القمة.
وتأتي قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا بعد عدة أشهر من كشف وزيرة الخارجية أنتوني بلينكين النقاب عن السياسة الأمريكية الجديدة لأفريقيا. والتي بموجبها ستسعى الولايات المتحدة إلى تحقيق أربعة أهداف رئيسية في أفريقيا في مقدمتها الانفتاح على المجتمعات، تقديم المكاسب الديمقراطية والأمنية، تتقدم التعافي من الجائحة والفرص الاقتصادية، ودعم الحفاظ على المناخ والتكيف مع المناخ والانتقال العادل للطاقة.
وبعيدا عن الأهداف الأمريكية فإن الإدارة الأمريكية شعرت بخيبة أمل لأن معظم دول القارة رفضت إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، خاصة وأن تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية أعادت مخاوف الولايات المتحدة بشأن النشاط الروسي في أفريقيا، حيث نشطت مجموعة المرتزقة الروسية المعروفة باسم مجموعة فاجنر، والتي تنشط في ليبيا والسودان ومإلى وجمهورية إفريقيا الوسطى.
ومن الواضح - ومن التخطيط لعقد القمة وجدول أعمالها - سعي الإدارة الأمريكية لتأكيد حضورها السياسي والاستراتيجي عبر استراتيجية مختلفة وإقناع الشركاء القدامي بأن الولايات المتحدة لديها الرغبة، والتوجه الذي يمكن البناء عليه في الفترة المقبلة في ظل ما يري من تحديات حقيقية يمكن أن تواجه الولايات المتحدة، وتعمل على مواجهتها من خلال مقاربات جديدة تركز على الأولويات أولا، والاشتباك المباشر مع الخصوم بمفهوم الإدارة الأمريكية التي تشير إلى أن الخصم الرئيسي للولايات المتحدة هو الصين، ويجب مواجهته بما يملك من حسابات قوة شاملة حقيقية قادرة على إيقاع أكبر خسائر بالولايات المتحدة في مناطق نفوذها .
ترتبط اهتمامات الولايات المتحدة بالقارة الأفريقية برغبة كبيرة في تحقيق مصالحها المستجدة مع العمل معا، وهو ما سيخلف فرص للتواجد، والتفاعل الحقيقي على اعتبار أن القمة ستؤكد الأهمية، التي تضعها إدارة بايدن على التعاون مع أفريقيا، لمواجهة التحديات، واستغلال الفرص، وتؤكد التزام إدارة بايدن بتعزيز الشراكات والتحالفات العالمي خاصة وأن الإدارة حرصت على التركيز على التفاعلات الخاصة بجدول أعمال الاتحاد حتى عام 2063، وهو الإطار الاستراتيجي للقارة لتحقيق التنمية والحرية والازدهار الجماعي لدولها.
في ظل هذا السياق السابق فمن المتوقع أن تقدم إدارة بايدن عدداً من المبادرات، حول تعزيز الأمن الغذائي ومساعدة أفريقيا على مواجهة التأثيرات السلبية للحرب الروسية على أوكرانيا، ومبادرات استثمارية وتجارية ومبادرات للتعاون في مجال مكافحة التغير المناخي. وقد أبدت إدارة بايدن دعمها لإضافة الاتحاد الأفريقي كعضو دائم في مجموعة العشرين والرسالة أن القارة الأفريقية في حاجة إلى تخفيف عبء الديون وتخفيف قيود الملكية الفكرية أو ما سُمي باتفاق TRIPS التي وقف حائلاً دون حصول الدول الأفريقية على حق تصنيع اللقاحات ضد وباء كوفيد – 19، ويقابل ذلك قيام الصين بضخ مليارات الدولارات في مشاريع الطاقة الإفريقية والبنية التحتية والمشاريع الأخرى في أفريقيا .
والواضح من القمة وفعالياتها أنها تتماشي مع ما صدرت إدارة بايدن في أغسطس الماضي استراتيجيتها تجاه أفريقيا وجنوب الصحراء، التي كشفت عن ضخ الصين لمليارات الدولارات في مشروعات الطاقة الأفريقية والبنية التحتية والموانئ الإستراتيجية. وحذرت الاستراتيجية في تقييماتها السياسية والاستراتيجية على المديين القصير والطويل الأجل من أن قدرة الصين على تحقيق طموحاتها في القارة الأفريقية ستمكنها من تحدي النظام العالمي وتعزيز مصالحها الجيوسياسية والتجارية. كما تطرقت الاستراتيجية لأهم المطامع الروسية في إبرام صفقات أسلحة واسعة مع الدول الأفريقية واستغلال حالة عدم الاستقرار والانقلابات في تحقيق مصالح مالية واستراتيجية.
والرسالة أن الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا ستعيد صياغة أهمية المنطقة لتحقيق مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة. وستتخذ خطوات مهمة في سبيل تطوير، وتعميق العلاقات التجارية الاقتصادية الدبلوماسية. ومن المرجح أن تشهد المباحثات في المجال العسكري تطوير قوة أفريكوم، والتعاون مع الجيوش الأفريقية، من طريق شركات أمنية وعسكرية أمريكية خاصة.
والواضح جليا اعتماد الولايات المتحدة على استراتيجية براجماتية في أفريقيا، مع التخفيف على التركيز على حقوق الإنسان والحوكمة الديمقراطية، وستلعب وفق قواعد واقعية لمجابهة تراجع نفوذها والنفوذ الفرنسي لمصلحة روسيا والصين كما ستعمل الإدارة الأمريكية على المساهمة في مجال مكافحة الإرهاب، من طريق زيادة الدعم المالى واللوجيستي والتدريبي لقوات ووكالات مكافحة الإرهاب.
في المجمل فإن افريقيا – وبصرف النظر عن القمة ونتائجها المتوقعة-- تمتلك كل المزايا اللازمة لتصبح فاعلا نشيطا، وأكثر اندماجا في التطورات الدولية الراهنة خاصة وأن القمة استهدفت تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الجانبين الأمريكي والأفريقي، والشراكة بين القطاعين العام والخاص للاستفادة من خبرات القطاع الخاص، وباعتبار أن القارة هي الأسرع نموا في العالم، مع التأكيد على التزام أمريكي بأن توفر لشركائها الأفارقة كافة الأدوات المتاحة، ومنها تمويل التنمية والقروض والدعم الفني، ودعم الإصلاحات التشريعية مع التأكيد على أن أفريقيا أصبحت ساحة للتنافس الدولي بين القوى العالمية والإقليمية، والتي تجلت خلال الأزمة الروسية – الأوكرانية، عندما سعت الأطراف المتحاربة لمحاولة استقطاب الدول الأفريقية في صفها.
لهذا أدركت الإدارة الأمريكية أن عدم الانخراط في القارة يعني بلا شك تزايد نفوذ الدول الأخرى. وعلى سبيل المثال، تشهد القارة تزايد النفوذ الروسي لمواجهة النفوذ الغربي، والذي تبلور من خلال زيادة حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول الأفريقية بأكثر من 34% منذ بداية العام الجاري، وبقاء أفريقيا واحدة من أكثر الوجهات التجارية الواعدة بفضل سوقها الواسع غير المستغل وغلبة الشباب على تركيبتها السكانية، والذين من المتوقع أن يصلوا إلى أكثر من ملياري شخص بحلول عام 2050. ومن ثم فإن الولايات المتحدة ستعمل على تكريس مصالحها في القارة كأولوية متقدمة في الفترة المقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة