صباح الأربعاء السابع من ديسمبر كانون أول الجاري، كانت السلطات الألمانية، تلقي القبض على مجموعة متطرفة ذات ميول يمينية، تعرف باسم” مواطنو الرايخ”، والتي خططت لاقتحام البرلمان الألماني” الرايخستاغ”، والاستيلاء على السلطة.
تبدو الكلمات مثيرة إلى حد العجب، إذ ليس المقصود انقلاباً في جمهورية من جمهوريات الموز، تلك المعرضة للقلاقل والاضطرابات، بل إنها ألمانيا، قلب أوروبا الاقتصادي، دولة الفلاسفة والمفكرين، والمؤسسات الحكومية المستقرة والمستمرة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحجر الرحى الأوروبي في حلف الناتو، فكيف يتسق حديث الانقلابات هذا مع كينونة دولة كبرى بهذا الحجم؟
من الواضح أن الألمان يدوسون معصرة الغضب والكراهية، الطريق الضيق المؤدي إلى الأصولية، حيث العنف هو اللغة السائدة، والكراهية والمقت هما الشعار المعروف، فيما المخيف أن يكون بين المقبوض عليهم نواب سابقون في البرلمان الألماني، وعسكريون يدركون خطورة الأمر، بل إن قائد في القوات الخاصة الألمانية وجد بين مواطني الرايخ، الذين لا يعترفون بهوية ألمانيا الحديثة، ويرون أنها غير شرعية، وأن تاريخ ألمانيا توقف عقب انهيار الرايخ الثالث بعد الحرب العالمية الثانية.
هل من مرض عضال أصاب المجتمع الألماني؟
منذ العام 2016، والاستخبارات الألمانية الداخلية "هيئة حماية الدستور الألمانية"، تتبع المنتمين لهذه الحركة، لا سيما بعد إقدامهم على قتل ضابط ألماني تابع لوحدة شرطية خاصة ما يعني أن التنظير الأيديولوجي اليميني، قد انتقل من خانة الحديث إلى حيز التنفيذ.
ما يؤمن به أنصار "مواطنو الرايخ"، يتهدد السلم والأمن الداخلي في ألمانيا، وبخاصة في ظل عدم اعتراف اتباع هذا الفريق المتطرف بالمؤسسات الألمانية، مثل المحاكم والسلطات القانونية الأخرى، وكذلك لا يعترفون بالقوانين، والمحددات والمعايير القانونية كالضرائب، أو دفع الغرامات، ناهيك عن إهمال التجاوب مع الدعوات الموجهة من قبل المحاكم والسلطات الألمانية، ورفضهم حمل هويات الدولة الألمانية الرسمية، ويحملون عوضا عنها وثائق غير رسمية، الأمر الذي يفيد بأن هناك "دولة موازية" تتخلق في الرحم الألماني، إذا قدر لهم النمو والحياة لوقت أبعد.
هل هناك ما هو أسوأ؟
من أسف ذلك كذلك، الأمر الذي يتمثل في سعي "مواطنو الرايخ" إلى تكوين جيش سري خاص، يكون أداة القوة الباطشة، وذراعها الطويل لتنفيذ ما تراه من مخططات في قادم الأيام.لا تبدو جماعة، "مواطنو الرايخ”، وحدها من يثير الذعر الداخلي في المجتمع الألماني، في الوقت الراهن، ذلك أن هناك مجموعات مختلفة، مثل "بغيدا"، و"الطريق الثالث"، وهو حزب نازي جديد، وجماعة "السكسونيين الأحرار"، فيما الحضور الأكبر والأخطر، فيتمثل في "حزب البديل من أجل ألمانيا"، والذي حاز في وقت سابق على نحو مائة مقعد في البرلمان الألماني.
يعن للقارئ أن يتساءل، وله في الحق ألف حق: أين المرض الحقيقي، والذي أصاب الألمان، ويظهر تحت أشكال تحت المجموعات اليمينية المغرقة في تطرفها؟
قبل بضعة أشهر، حذرت الجهات الاستخبارية الألمانية مما أسمته "انتفاضة عارمة"، من أصحاب الرؤى اليمينية، والتي وجدت في مناخات العواصف العولمية المعاصرة، فرصة مواتية لراياتهم الفاقعة وأصواتهم الزاعقة، وباختصار غير مخل، لإفشاء "ثقافة الكراهية" بين الألمان.
عدة عوامل مقلقة تجمعت سحبها السوداء فوق سماوات ألمانيا، في مقدمها انهيار الآمال المجتمعية في غد أفضل، إذ يعتبر أنصار تلك التيارات أن الحزب الديمقراطي المسيحي بقيادة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، قد أخفق في بلورة رؤية ألمانية مجردة عن التبعية للولايات المتحدة الأمريكية على نحو خاص.
أضف إلى ذلك، ردات الفعل النفسية السلبية التي تراكمت من جراء أزمات متتالية، فقد ارتفعت اكلاف الحياة، وبخاصة مع الأزمة الأوكرانية، وقطع روسيا الغاز عن عموم أوروبا، ما رفع من أسعار الغذاء والدواء والكساء.
التلاعب الأيدلوجي بالألمان
عطفا على ذلك، بدا وكأن هناك من يتلاعب أيديولوجيا بالألمان، عبر ورقة الهجرة، واستحضار ذكريات سقوط الإمبراطورية الرومانية، والتي كانت هجرات قبائل الهون الآسيوية سببا مباشرا فيها، ما دفع القبائل الجرمانية للتوجه نحو روما للاحتماء بها، واليوم هناك من يغذي تلك الأفكار ويشيع الهلع من هجرات البحر الأبيض المتوسط، ودول شمال أفريقيا .
والمؤكد أنه في حالة افتقاد عنصر الأمان، يكون السعي دوما إلى مفاهيم القوة الخشنة المجردة، كأقرب مرفأ، وبخاصة في أزمنة الشتاء، وما تحمله معها من أمراض نفسية وجسمانية، وما تتركه في الإطار المجتمعي العام من قلاقل ومخاوف.
تبدو ألمانيا اليوم على عتبات "خريف الغضب الحار"، لا سيما إذا وضعنا في الإطار الكلي، احتمالات تعاون وتضافر جهود بين اليسار الألماني الأصولي بالمعنى الماركسي، والجماعات اليمينية المتشددة بمبناها المعرفي الضيق.
ما يجري في ألمانيا، قابل للحدوث وبقوة في غيرها من الدول الأوروبية، حيث تشعر فيها الطبقات المتوسطة، والتي هي صمام الأمان المجتمعي تاريخيا بانهيار العالم من حولها، ولهذا تبادر إلى المغادرة والهجرة إلى الداخل، وهو أمر عرفته من قبل أمم وحضارات مشابهة، من انكفاء على الذات وقت الأزمات.
هل سيقدر لألمانيا هيجل، وكانط، وشوبنهور، وغيرهم الفكاك من براثن الفخوخ الأصولية، والحركات الراديكالية المعاصرة، والتي يمكنها أن تدفع القارة الأوروبية برمتها إلى هاوية سحيقة من الديكتاتورية الفاشية القمعية؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة