الإدارة الأمريكية تدرك أنها في حاجة لدعم الدول العربية الرئيسية مثل السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، إضافة لمصر والأردن.
تستعد الإدارة الأمريكية خلال الأسابيع القادمة للبدء في طرح مشروع كامل في الشرق الأوسط، والتركيز على إتمام تسوية مباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، والواضح أن الأطراف المشاركة في صياغة المشروع الأمريكي هم كل من جيسبسون جرنبلات وجارد كوشنر وديفيد فريدمان، وهو الثلاثي الذي عمل على صياغة الأفكار النهائية للمشروع الأمريكي بعد مشاورة مع عدد من الخبراء في مركز بروكينجز وسابان والتقدم والشرق الأدنى.
أولا: يحمل المشروع الأمريكي الذي تسرب إلينا من مصادر أمريكية طوال الأسابيع الماضية عن رؤية لبناء السلام والاستقرار في الإقليم، انطلاقا من بدء مسيرة التسوية الفلسطينية الإسرائيلية عبر تفاهمات سياسية ممتدة وإجراءات طويلة ستأخذ سنوات وعبر تفاوض طويل غير محدد التوقيت بين الجانبين، مع تكشف مسار التسوية من خلال لقاءات مباشرة، وإجراءات بالأساس ثنائية، مع عدم التركيز على صيغ محددة سابقة تم طرحها سلفا عبر أكثر من 30 عاما، مع العمل على تكشف مسارات سياسية حقيقية بدون فرض سياسات واحدة بما في ذلك خيار حل الدولتين.
ويخوض المشروع الأمريكي في صياغات عامة وأطر فلسفية حول جدوى السلام في الإقليم، وضرورة صياغة منظور سياسي واقتصادي جديد لا مكان فيه لنزاعات أو صراعات، على أن يتقبل الطرفان الحياة معا، وبدون الخوض في تاريخ الصراع أو مستوياته أو أنماطه، والواضح من الصياغات الأولى التي وصلت إلينا أنها مجموعة أفكار عامة شارك في وضعها شخصيات عديدة من باحثين وخبراء متخصصين في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وتدخّل في الصياغات شبه النهائية السفير الأمريكي في إسرائيل ديفيد فريدمان لضبط بعض الرؤي والمفاهيم التي ستكون محل نظر خاصة من الجانب الفلسطيني.
الرسالة التي يجب على الإدارة الأمريكية تفهمها أن طرح أي مشروع للتسوية في الشرق الأوسط يجب أن يحظى بقبول فلسطيني أولا وعربي ثانيا، مع تقبل قيام الإدارة الأمريكية بدور الوسيط ولو على المستوى الشكليثانيا: يحفل مشروع التسوية الأمريكي بالكثير من التفاصيل الخاصة بالقضايا محل التفاوض المشترك، والتي كانت في الماضي متعلقة بالقدس واللاجئين والمياه والحدود والمستوطنات وإشكاليات أخرى ترتبط بهذه الموضوعات، أما المشروع الأمريكي المقترح فسيركز على قضية الاستيطان، ومسألة اللاجئين بعد إسقاط ملف القدس، والذي لن يكون محل تناول في أي مفاوضات، وهو الأمر الذي سيفقد مشروع التسوية مضمونه، وقد نصح خبراء الإدارة الأمريكية فريق المفاوضين بضرورة عدم غلق الباب أمام أية قضايا، كي لا يبدأ الجانب الفلسطيني في الرفض؛ ليتم تفريغ المشروع بالكامل من هدفه العام، خاصة أن الإدارة الأمريكية مترددة في إصدار هذا المشروع حتى الآن، وبالتالي فإن القضية ليست في الانتظار لما بعد يونيو أو بعده بأشهر، وإنما الأمر مرتبط بالتوقيت المناسب، وربما تحيُّناً لفرصة قادمة، وقد تردد من داخل الإدارة الأمريكية توقيت إصدار المشروع في الوقت الراهن، أو الانتظار لمرحلة ما بعد الرئيس محمود عباس، وإعادة تأهيل قطاع غزة أولا من خلال رفع بعض الإجراءات المفروضة الآن مع العمل على تقديم تسهيلات حقيقية في القطاع منعا لتفجر المشهد، على أن يكون البدء بتنفيذ خطة الأمم المتحدة ومبعوثها للسلام في الشرق الأوسط، تزامنا مع الإجراءات الجديدة للحكومة الإسرائيلية في القطاع، والتي تتعلق بتخفيف حالة الحصار، والبدء في القبول بتنمية القطاع منعا لأية خيارات سلبية واردة.
ثالثا: تدرك الإدارة الأمريكية أنها في حاجة لدعم الدول العربية الرئيسية مثل السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، إضافة لمصر والأردن؛ للشروع قدما في تنفيذ مشروع التسوية على الأرض، خاصة أن هناك تصورا خاطئا على المستوى الأمريكي – مازال موجودا لدى مستشاري الإدارة الأمريكية – بأن الخيارات الفلسطينية محدودة، وأن الاستمرار في اتباع سياسات انفرادية سيكون إيجابيا، وهو أمر غير صحيح رغم حالة الضعف التي باتت عليها السلطة الفلسطينية وارتباكها وترددها في إدارة المشهد داخليا، وحاجتها لبناء استراتيجية سياسية حقيقية يمكن أن تكون مدخلا لأية مسارات جديدة في الفترة المقبلة، فلأول مرة يبدأ حراك شعبي حقيقي وراؤه منظمات مجتمع مدني ونقابات وعشائر، وقوى شبابية وكتاب فكر، وغيرهم في رام الله، يطالب برفع حالة الحصار على قطاع غزة، والدعوة لرفع الإجراءات العقابية على القطاع، والتي تتجاوز بالفعل صرف رواتب، أو تمكين حكومة التوافق من عملها في ظل الحسابات الفصائلية الضيقة التي ماتزال تحكم الداخل الفلسطيني، وتعوق مسار الحركة الوطنية بالفعل، وسيكون لها تأثير ممتد في الفترة المقبلة عندما سيتحرك الجانب الفلسطيني بصورة شاملة في الأمم المتحدة قبل دورة سبتمبر المقبل.
رابعا: تملك الدول العربية الرئيسية فرصا حقيقية في توجيه مسار المشروع الأمريكي للتسوية، وغير صحيح أن الدول العربية هي الأخرى في مصاف المتلقي، فمساحات التجاذب والتباين بين بعض الدول العربية، والإدارة الأمريكية تتسع في ظل الإدراك العربي بأن الإدارة الأمريكية لا تتفهم طبيعة الأولويات العربية، وأن ما يجري في الملف الفلسطيني يجري في ملفات عربية أخرى تتعلق بالأمن القومي العربي، والحاجة العربية الملحة في بناء موقف عربي واضح ومتماسك، وربما كان تأسيس مجلس التنسيق بين السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة نموذجا جديدا وحيويا سيبنى عليه لاحقا، حيث سيتوجه في رسائله السياسية والاستراتيجية بأهداف عديدة للداخل الخليجي والعربي بل الدولي، مع التأكيد على أن الدول العربية في مجموعها قادرة على طرح البدائل بل السيناريوهات؛ لمواجهة أية تحديات قادمة، وفي إطار المصالح العربية الجمعية، والتي لا تتوقف عند مسار واحد، وهو ما أطلقته بوضوح قمة الظهران من قبل، ويمكن أن يكون مدخلا لتعاملات عديدة لن تتوقف عند التعامل العربي القادم مع المشروع الأمريكي للتسوية، أو أي طرح أمريكي يقترب من أسس، ومرتكزات ما تبقى من معطيات النظام الإقليمي العربي.
خامسا: طرح العرب في السابق، ومازالوا يعلنون تمسكهم الحقيقي بالمبادرة العربية كركيزة التعامل مع إسرائيل وهي صيغة حقيقية وواقعية، وهو ما يتطلب دعما أمريكيا حقيقيا وليس التحرك من جانب واحد، وعبر استراتيجية انفرادية تضع إسرائيل على رأس أولوياتها حيث لا أمن أو استقرار سوى لإسرائيل التي يعلو أمنها على أمن الدول العربية، وهو أمر يفقد الولايات المتحدة الدولة وليس الإدارة مصداقيتها السياسية والاستراتيجية في المنطقة، بل وفي المنظومة الدولية، ويعطي للجانب الفلسطيني الفرصة، وبحق، للتأكيد على أن هذه الإدارة الأمريكية لم تعد وسيطا نزيها بالفعل، خاصة أن التنظيم الدولي (الجمعية العامة / مجلس الأمن ) ليس محده ممثلا في الولايات المتحدة فقط، وهو ما يثبت فعليا وواقعيا مشروعية الطرح الفلسطيني بضرورة توسيع نطاق الوساطة لتضم دولا أخرى إلى جوار الولايات المتحدة التي عليها أن تتيقن أن الدول العربية لن تقبل الدخول في شراكات إقليمية، أو في أي مجالات للتعاون الاقتصادي أو القبول بإسرائيل في ظل الوضع الراهن، ولو بعد سنوات طويلة حتى مع حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو عن أن دولا عربية تتواصل مع إسرائيل، وهو حديث إعلامي وسياسي يجب أن يوضع في الهامش وليس في بؤرة التناول حتى مع استثمار إسرائيل للوضع الراهن، وتوظيف الموقف الأمريكي غير المسبوق في تنفيذ مخططات شيطانية في الأراضي المحتلة عبر خطة 2050 في القدس، وما يجاورها من مناطق.
سادسا: إن ما تخطط له الإدارة الأمريكية في بناء مشهد سياسي جديد بهدف تغيير الوقائع التاريخية للصراع العربي الإسرائيلي وفقا لحسابات سياسية تجاه إسرائيل، يفتقد المعطيات السياسية الحقيقية، ولا يملك أية مرجعية حقيقية في التعامل أو فرض استراتيجية الأمر الواقع، خاصة أن المواجهات الفلسطينية سواء من القطاع أو الضفة ستتواصل، وستستهدف إنهاك الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بصورة أسبوعية، ولن تنعم إسرائيل باستقرار، وستظل في حالة استنفار دائم ربما سيكون مكلفا، وهو ما تدركه الأجهزة الاستخباراتية التي نصحت الحكومة الإسرائيلية مؤخرا بتبني خطة لإعادة تأهيل القطاع، وإلا فإن البديل سيكون صفريا، وسيكون له تداعيات مكلفة على أمن إسرائيل في المدى القصير، ولهذا فإن الإدارة الأمريكية تدرك أنه في حال طرح مشروع التسوية، وبدون قبول فلسطيني مبدئي ودعم عربي حقيقي فإن هذا المشروع سيفشل مسبقا، حيث لن توجد خيارات حقيقية بديلة، وستتحمل الإدارة الأمريكية تبعات ما تبنت، خاصة إذا انفجر الموقف في قطاع غزة، أو حدثت فوضى حقيقية في الضفة الغربية، ومن ثم فإن الإدارة الأمريكية ستتردد في طرح التصور، وستحاول الحصول على دعم عربي مسبق ربما لن يقابل عربيا بترحاب، أو مساندة حقيقية في ظل انشغال الأردن بأحداثه الداخلية، وتخوف الملك عبد الله الثاني على الإقدام على أي موقف في ظل عودة مخاوف الوطن البديل ومعاناة الاقتصاد الأردني، وتلكؤ الإدارة الأمريكية في توجيه المساعدات الإضافية لعمان برغم إقرارها من الكونجرس، ودخول الاتحاد الأوروبي على خط دعم الأردن، وهو أمر سيضعه الملك عبد الله الثاني في تقديره كما أن العلاقات المصرية الأمريكية تمر بحالة من الفتور منذ عدة أشهر، كما لم تستقبل القاهرة شخصيات أمريكية مسؤولة بل لم يزر مصر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في جولته الأخيرة في الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن القاهرة أيضا لها حساباتها السياسية والاستراتيجية، ولن تندفع للتجاوب مع التحركات الأمريكية، ولعل الإشارة للأردن ومصر هنا مرتبطة بأن البلدين يقيمان سلاما رسميا مع إسرائيل، وأنهما نموذج – مع التحفظ – للعلاقات الرسمية مع إسرائيل.
إن الرسالة التي يجب على الإدارة الأمريكية تفهمها أن طرح أي مشروع للتسوية في الشرق الأوسط يجب أن يحظى بقبول فلسطيني أولا وعربي ثانيا، مع تقبل قيام الإدارة الأمريكية بدور الوسيط ولو على المستوى الشكلي، وهو أمر غائب في ظل تجمد الاتصالات الفلسطينية الأمريكية، وعدم وجود ظهير عربي حقيقي لأي تحرك أمريكي راهن، ومن ثم فإن الإدارة الأمريكية قد تتجه لتحقيق تسويات أخرى في أقاليم أخرى في جنوب شرق آسيا (الحالة الكورية)، مع إعادة تدوير أولوياتها الأمنية والاستراتيجية في أوروبا، وإلى حين اتضاح الرؤية في الشرق الأوسط، والذي لاتزال الإدارة الأمريكية تراه إقليما مضطربا، وسيستمر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة