هناك قوى تبحث عن دور إقليمي على حساب أطراف أخرى، لذلك تدعم كيانات هامشية معقدة، مسكونة بكل أمراض التاريخ.
الحرب ليست عملاً سلبياً مرفوضاً من جميع البشر، فهناك دائماً من يرتزق منها، ويعتمد وجوده على وجودها، ويزداد ثراؤه وقوته باستمرارها واشتعالها، ولذلك لا ينبغي افتراض أن جميع البشر يعارضون الحروب ويرفضونها، ومن ثم نقبل ظاهر أفعالهم، وننخدع بشعاراتهم؛ حتى وإن كانت شعارات نبيلة، وتحمل عناوين قانونية ودولية وإنسانية، فكثيرا ما يكون الإنساني والقانوني والدولي غطاءً لمصالح معقدة ومتشعبة وعميقة؛ بعيدة في حقيقتها عن ظاهر الشعار، وعن كل ما يحمله من قيم إنسانية نبيلة.
مع بداية عملية تحرير درنة انعقد مجلس الأمن الدولي ليناقش الوضع الإنساني في درنة، وكأن ما يقوم به الجيش الوطني الليبي، هو الذي يُخشى منه على الوضع الإنساني، وما كانت تقوم به العصابات المجرمة من قتل للأبرياء في ليبيا ومصر هو الوضع الإنساني بعينه!وحين ننظر في المشهد الدولي هناك أنواع متعددة من الفاعلين المؤثرين الذين يصنعون الشرعية الدولية، ويحددون ما هو متسق مع القانون الدولي، أو القانون الدولي الإنساني، وما هو غير متسق معه، أو مخالف له، هؤلاء الفاعلون موجودون في تاريخ المجتمع الدولي منذ زمن طويل، أقلهم تأثيراً وفاعلية ونفوذا هم أكثرهم ظهوراً، وبريقاً وضوضاءً؛ وهم الدول المائة والثلاث والتسعون الأعضاء في الأمم المتحدة، وأكثرهم تأثيراً هم أكثرهم خفاءً، وأبعدهم عن الظهور، وأكثرهم نكرانا لذواتهم، وبعداً عن الأضواء.
المشهد الدولي غاية في التعقيد والعمق، لا ينبغي أن يتم التعامل معه بحسن نية قد تصل إلى حد السذاجة المؤذية، ولا ينبغي كذلك التعامل معه على أنه مؤامرة كبرى، حيكت في الظلام تستهدفنا دونا عن العالم أجمع، إنه في منزلة بين المنزلتين، في منطقة وسط بين هذا وذاك، فلا هو عالم يقوم على المثل والقيم والنوايا الحسنة، ولا هو عالم يقوم على المؤامرة والخداع والغدر، ولكنه عالم واقعي تتقاطع فيه مصالح أطراف عديدة، وكل طرف يريد أن يحقق الحد الأقصى من مصالحه، ولذلك يستخدم كل ما هو متاح أمامه من وسائل، حتى وإن كانت وسائل بعيدة عن المثل والقيم الإنسانية، طالما أنه لن يخسر شيئا من مصالحه، أو سمعته بسبب استخدامها، ومن ضمن الوسائل التي تستخدمها الأطراف التي تتقاطع مصالحها في المشهد الدولي: منظمة الأمم المتحدة خصوصاً مجلس الأمن، المؤسسات والشعارات الإنسانية، ومنظمات حقوق الإنسان، والمنظمات الإنسانية والإغاثية.. إلخ. كل هذه من الممكن أن تكون وسائل لتنفيذ سياسات، وتحقيق مصالح، وتمرير أجندات معينة؛ إذا كان أصحاب هذه المصالح من القوة والنفوذ بدرجة تمكنهم من استخدام كل القيم والمنظمات والشعارات والقوانين الإنسانية لتحقيق مصالحهم، التي قد تكون غير إنسانية، وغير قانونية ولا علاقة لها بالقيم.
بالأمس القريب عندما أوشك الجيش الوطني الليبي على تحرير مدينة درنة في الشمال الشرقي لليبيا من تنظيمات داعش والقاعدة المتحالفة مع تنظيم الإخوان الفاشل، والتي تعمل جميعها لتنفيذ أجندة السلطان العثماني وعميله القطري، مع بداية عملية تحرير درنة انعقد مجلس الأمن الدولي ليناقش الوضع الإنساني في درنة، وكأن ما يقوم به الجيش الوطني الليبي هو الذي يُخشى منه على الوضع الإنساني، وما كانت تقوم به العصابات المجرمة من قتل للأبرياء في ليبيا ومصر هو الوضع الإنساني بعينه، وهو القانوني نفسه؛ لذلك لم يحرك مجلس الأمن الدولي له ساكناً منذ سبع سنوات، واليوم ينعقد مجلس الأمن مع بداية عملية تحرير الحديدة في الساحل الغربي من المليشيات العميلة لإيران في اليمن، التي عاثت في الأرض فسادا بعد انقلاب طائفي شرس، تسعى فيه أقلية ضئيلة لاختطاف دولة كاملة بالقوة والسرقة والنهب لإلحاقها بمشروع عنصري فارسي يوظف الطائفة والمذهب والدين لتحقيق أحلام إمبراطورية جاهلية.
مع بداية تحرير الحديدة من أولئك المجرمين الذين حولوا الميناء لاستيراد كل وسائل الدمار، وسرقة المعونات الإنسانية والاتجار بها، وحرمان الجوعى والفقراء والمعوزين منها؛ ينعقد مجلس الأمن لمناقشة الوضع الإنساني في الحديدة، وهو ذات المجلس الذي رفض أن ينظر في الوضع الإنساني في غزة منذ أيام قليلة، وفشل في الوصول لموقف يطالب بحماية المدنيين العزل من آلة الحرب الصهيونية العنصرية التي تمارس التطهير العرقي، ولم ير فيما يجري في غزة وكل فلسطين منذ ثلاثة أرباع القرن شيئا يستحق أن يكون إنسانيا، ويتطلب موقفا إنسانياً.
كلا الموقفين من تحرير درنة الليبية، والحديدة اليمينة كانت الشعارات الإنسانية يتم توظيفها فيه لاستمرار الحرب، وإطالة مدتها، والحفاظ على جذوة اشتعالها؛ حتى تستمر المعونات الإنسانية، والمواقف الإنسانية تذرف دموع التماسيح على الضحايا، وتتأسف على المواقف الوحشية لجميع الأطراف، هو نفس الموقف الذي عبر عنه محمد مرسي، رئيس مصر الأسبق والقائد الأعلى لجيشها، في ذلك الوقت؛ عندما خطفت مجموعة من الإرهابيين شديدي الإجرام جنودا مصريين في سيناء، فتحدث مطالباً قوات الجيش أن تحافظ على "أرواح الخاطفين والمخطوفين"، فقدم الخاطفين على المخطوفين، لأن هناك لعبة سياسية معينة كان يقوم بها هو وجماعته تجعل الخاطفين والمخطوفين بيادق على رقعة شطرنج.
نفس الموقف اتخذه الفاعلون الدوليون المؤثرون مع درنة والحديدة، المهم أن تتم المحافظة على الخاطفين والمخطوفين لتحقيق أهداف عليا...فما هي يا ترى هذه الأهداف التي تجعل الحروب ضرورة للبعض يقاتل من أجل استمرارها؟
أولاً: هناك جماعات قوية في العالم تتحكم في الصناعات العسكرية، واقتصادها يقوم على الحروب، واستمرارها واشتعالها، ومن ثم يصبح أي جهد يهدف إلى وضع حد للحروب، والوصول إلى نهاية لها هو عمل يهدد مصالح هذه القوى، وهذه القوى تظهر بصورة قليلة جداً، ويصعب الوصول في غالب الأحيان، ولكن يمكن الاستدلال على وجودها من خلال إثارة السؤال: لمصلحة من يحدث ذلك؟
ثانيا: هناك قوى خفية مسكونة ومهووسة بقضية التوازن السكاني في العالم، وأن هناك شعوبا تتزايد بصورة متسارعة بينما الجنس الأبيض الذي يعتبر عندهم قمة الحضارة البشرية يتعرض للانقراض بفعل العزوف عن الزواج، أو الزواج المثلي، أو العزوف عن الإنجاب، واستبدال الكلاب والقطط بالأطفال.
ثالثاً: هناك قوى تؤمن بصدام الحضارات، وترى أن الحضارات المعادية ينبغي أن يتم تفجير الصراعات بين مكوناتها، حتى يقضي بعضها على بعض، ويتم التخلص من خطرهم على المدى البعيد.
رابعاً: هناك قوى تبحث عن دور إقليمي على حساب أطراف أخرى، لذلك تدعم كيانات هامشية معقدة، مسكونة بكل أمراض التاريخ مثل جماعة الحوثي أو داعش أو الحشد الشعبي من أجل استنزاف دول معينة، وإهدار ثرواتها في الحروب، وإرباكها، وإشغالها عن التنمية والتطوير والتقدم، وتحقيق الرفاهية لشعوبها، والقوة لدولها.
كثيرة هي القوى التي ترى أن في مصالحها استمرار الحروب، وتوظف في سبيل ذلك كل الشعارات والقيم الإنسانية والدينية والأممية والقانونية، وما علينا إلا أن نفكر بعمق، ونتأمل الواقع، ونربط الأحداث، ونتعلم من التاريخ حتى لا نقع في شراك هذه القوى، ولكن يجب ألا نفكر في القضاء عليها أو هزيمتها، لأن ذلك من طبيعة البشر، وهو مكون موجود مع البشرية، غاية أهدافنا أن نحمي أنفسنا ومجتمعاتنا منها، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة