الهدف الأساسي لمؤتمر وارسو هو تقديم مقاربات في منطقة الشرق الأوسط.
عُقد مؤتمر وارسو في 12 فبراير الجاري؛ من أجل البحث في مشكلة الشرق الأوسط، والعمل على دفع جهود عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين، إضافة للبحث في قضايا إقليمية متعددة أهمها التعامل مع الحالة الإيرانية، وما تمثله من تحديات لأمن الإقليم بأكمله وللولايات المتحدة، وقد حضر هذا المؤتمر أفراد من أكثر من 40 دولة، بالإضافة لشخصيات دولية متعددة ومن مواقع دولية مختلفة، ومن خلال هذا المؤتمر، تطمح بولندا، التي تتمتع بعضوية غير دائمة في مجلس الأمن لعامي 2018 -2019، لأن تلعب دورا بارزا على الساحة العالمية والأوربية، وتأمل في أن يضعها هذا التجمع في مكانة دولية مرموقة.
الخلاصة هي أن المؤتمر هذا يؤكد على أن الإدارة الأمريكية بدأت بالفعل مرحلة جديدة من الإجراءات الانفرادية التي ستعمل عليها بصرف النظر عن قبول أو رفض القوى المعنية بإدارة الملفات المفتوحة في الشرق الأوسط، ولكن من الضروري أن تكون هذه الإجراءات لها نتائج واقعية وملموسة
وكان من المفترض أن يعقد هذا المؤتمر في السابق، ولكن نظراً لعدم التوصل إلى اتفاق حول الأجندة استمرت الحكومات في تأجيله، ليتم الاتفاق في نهاية المطاف على جدول أعمال يشمل غالبية القضايا الهامة في المنطقة منها الملف السوري واليمني، والصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وأسلحة الدمار الشامل وقضايا الإرهاب، وأمن الطاقة والتهديدات الإلكترونية، ومواجهة مغامرات إيران في المنطقة، ومع ذلك، تعامل معدو المؤتمر من زاوية واحدة ومن خلال تقديرات مسبقة وأحكام هي في الأصل أمريكية.
وتعود فكرة مؤتمر وارسو إلى بضعة أشهر عندما اقترحت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الدعوة إلى اجتماع موسع بهدف تشكيل تحالف ضد إيران يوازي التحالف الدولي ضد داعش، بالرغم من أن بعض الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا لا تزال تتخذ مقاربة مختلفة من الاتفاق النووي الإيراني ودور إيران السلبي في الشرق الأوسط، وعملت الإدارة الأمريكية على إجراء تغييرات في المؤتمر سواء بالنسبة لجدول الأعمال أو الأولويات من خلال الضغط الأمريكي من أجل تأسيس تحالف إقليمي عسكري يعرف باسم "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، أو اختصارا بكلمة "ميسا" (MESA)، ويطلق عليه رمزيا "الناتو العربي"، ووفقا لترتيب أمريكي كان واضحا منذ البداية - وهو ما كان مثارا للتحفظات الفلسطينية - أن كل الدعوات التي جاءت من الولايات المتحدة الأمريكية في هذا المؤتمر، وغيره من المؤتمرات المتوقعة هدفت إلى تصفية القضية الفلسطينية لخدمة الأهداف الإسرائيلية والأمريكية وهو ما اتفقت عليه الأطراف الفلسطينية بأكملها سواء في حركتي حماس أو فتح مع اعتبار أن المشاركين في فعاليات هذا المؤتمر - وفقا لطرح حركة حماس - يطعنون القضية الفلسطينية في الظهر، وقد كانت هذه الأسباب هي الأبرز في سياق الرفض العام لفكرة المؤتمر، واعتباره مدخلا لتصفية القضية الفلسطينية والإعلان عن الانحياز الكامل للجانب الإسرائيلي.
وفي هذا الإطار، كان طبيعيا أن يهاجم الفلسطينيون فعاليات وأعمال وارسو لأنه يسعى عمليا لإعادة رسم خريطة الصراعات والتحالفات في العالم والشرق الأوسط، وحيث لا يخفي المنظمون لأعماله - وفقا للطرح الفلسطيني العام - سعيهم لجعل إسرائيل دولة مستوعبة في الإطار العربي، على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، مع استمرار ترسيخ الاحتلال ونظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين والتأكيد على الدلالات المطروحة في توقيت عقد المؤتمر الذي يسبق موعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية، هذا إلى جانب التوقع بأن يقدم مستشار الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وصهره جاريد كوشنير بعض تفاصيل صفقة القرن، خلال المؤتمر في ظل ترتيبات سياسية تضم الثلاثي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وكوشنير، والمبعوث الأمريكي الخاص للشرق الأوسط جيسون جرينبلات، لوضع خريطة طريق للمؤتمر بكل فعالياته.
ومن جهة أخرى، يبدو أن هناك هدفا أساسياً أيضا مطروحا للمؤتمر، هو إقامة حلف عسكري تشارك فيه عدد من الدول العربية إلى جانب إسرائيل لمواجهة الخطر الإيراني الذي يتمدد في العواصم العربية تباعاً وهو ما يتطلب بالفعل مراجعة دولية لما يجري من تفعيل منظومة العقوبات الجارية والتي تحاول تطبيقها الإدارة الأمريكية لمنع النظام الإيراني من أي مراوغة، أو اللجوء إلى خطط بديلة خاصة مع تطبيق الآلية الأوروبية للمراقبة المالية، وهو ما تتحسب جيداً لتداعياته الإدارة الأمريكية وستدخل في تجاذبات مفتوحة مع كل من فرنسا وألمانيا.
وكان طبيعيا عدم حضور روسيا المؤتمر وانتقدت انعقاده، رغم مشاركة عشرات الدول فيه، وحذرت روسيا من نتائج المؤتمر العكسية، بسبب تركيزه بشكل كبير على مجابهة إيران، والواضح أن روسيا رفضت حضور القمة ليس لأنها تتعاطف أو تدعم إيران كما تردد، بل لربما لتخوفها من أن تكون الولايات المتحدة هي المحرك والفاعل في المنطقة مما يقلص دور روسيا الذي عملت على تفعيله في الشرق الأوسط لمدة سنوات.
تجدر الإشارة إلى أن إدارة الرئيس ترامب تعمدت تنظيم عقد المؤتمر بالتزامن مع الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية، وجرى التوافق الأميركي - البولندي على أن يكون البيان الختامي باسم الدولتين، ومن الواضح أن الهدف الأساسي للمؤتمر هو تقديم مقاربات من منطقة الشرق الأوسط، وكان ذلك بشرح موجز عن سوريا قدمه المبعوث الدولي بيدرسون، وعن اليمن قدمه المبعوث الدولي مارتن جريفيث، وعن الشرق الأوسط من وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو.
وبرغم كل الخلافات التي أثيرت على هامش المؤتمر - قبل وأثناء انعقاده- فقد أسفر عنه تشكيل ست لجان عمل لتنفيذ التوصيات المتعلقة بـمحاربة تهديد الأمن السيبراني، والصواريخ الباليستية، ومحاربة الإرهاب، وتوفير الأمن والطاقة، وأمان الطرق البحرية وحقوق الإنسان؛ في إشارة إلى ملفات موجهة وبشكل مباشر تجاه سلوك إيران في الشرق الأوسط، وتشبه آلية العمل في مؤتمر وارسو واللجان المنبثقة منه مراحل إطلاق التحالف الدولي ضد تنظيم دولة الخلافة في 2014؛ حيث يتزامن أيضا مع قرب إعلان واشنطن القضاء الكامل على التنظيم في آخر جيوبه شرق سوريا وبدء تنفيذ قرار ترامب الانسحاب من سوريا إن صدق في موعد اجتماعه.
ويتزامن مع المؤتمر انعقاد القمة الثلاثية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الإيراني حسن روحاني في سوتشي، والتي ستنظر في عملية أستانة وتشكيل اللجنة الدستورية السورية تمهيداً لإطلاق الإصلاح الدستوري بهدف تنفيذ القرار الدولي2254، هذا إلى جانب الزوايا الأخرى للوضع السوري منها انسحاب القوات الأمريكية والاقتراح الإيراني بلعب دور الوسيط بين أنقرة ودمشق وغيرها، في ظل تكثف الاتصالات لترتيب وضع ما بعد الانسحاب الكامل من شرق نهر الفرات المتوقع.
ويلاحظ أن الولايات المتحدة حسمت أمرها بالإبقاء على قاعدة التنف في زاوية الحدود السورية – العراقية – الأردنية؛ لمتابعة توجهات إيران، وحيث تختلف تقديرات موسكو وأنقرة وطهران للوضع في إدلب وأرياف حلب واللاذقية وحماة المجاورة، أو ما يعرف بمثلث الشمال، لكن الدول الثلاث الراعية لمسار أستانة، وافقت على ضم هذه المنطقة ضمن اتفاقات خفض التصعيد.
الخلاصة هي أن المؤتمر هذا يؤكد أن الإدارة الأمريكية بدأت بالفعل مرحلة جديدة من الإجراءات الانفرادية التي ستعمل عليها بصرف النظر عن قبول أو رفض القوى المعنية بإدارة الملفات المفتوحة في الشرق الأوسط، ولكن من الضروري أن تكون هذه الإجراءات لها نتائج واقعية وملموسة وليس إجراءات تؤدي لمزيد من الصراعات في المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة