الحوار الأمريكي مع "طالبان".. الأسباب والتداعيات
ما يميز إدارة ترامب أنها انخرطت بالفعل في الحوار مع طالبان، وقد تم التوصل إلى بعض بنود اتفاق السلام بصورة مبدئية.
بعد 17 عامًا من الحرب الأمريكية على أفغانستان، والإطاحة بحركة "طالبان"؛ لإيوائها تنظيم "القاعدة" الذي نفذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية، تنخرط إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مباحثات سلام مع الحركة يقودها "زلماي خليل زاد"، السفير الأمريكي السابق لأفغانستان خلال إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، بصفته مبعوثًا خاصًا للرئيس لأفغانستان، وتكون مهمته الأساسية التوصل لاتفاق سلام مع "طالبان" لإنهاء أطول حربًا خاضتها القوات العسكرية الأمريكية خارج أراضي الولايات المتحدة، وفي الأول من مايو/أيار الجاري عُقدت الجولة السادسة من تلك المحادثات بالدوحة.
لم تكن إدارة ترامب الأولى في التفكير في الحوار مع حركة "طالبان"، بل سبقتها الإدارة الأمريكية السابقة، حيث أعلن الرئيس باراك أوباما في أول عام له في البيت الأبيض عن سعيه لمراجعة استراتيجية الحرب الأمريكية في أفغانستان، وأنه قد حان الوقت للتحاور مع المعتدلين في الحركة، لكن محالات إدارته باءت بالفشل، لكن ما يميز إدارة "ترامب" أنها انخرطت بالفعل في الحوار مع طالبان، وقد تم التوصل إلى بعض بنود اتفاق السلام بصورة مبدئية خلال الجولات السابقة من المحادثات، على عكس كل الجهود السابقة التي فشلت في كثير من الأحوال قبل أن تبدأ.
أسباب أمريكية
ترجع أسباب حرص إدارة ترامب للتوصل إلى اتفاق سلام مع حركة "طالبان"، وسحب القوات العسكرية من أفغانستان إلى جملة من الاعتبارات الاستراتيجية والسياسية، والتي تتمثل في:
أولاً- تحول أولويات الإدارة الأمريكية من الانخراط العسكري المكثف لمكافحة التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا لما يزيد عن عقدين، إلى التركيز على التحديات التي تشكلها الصين وروسيا كقوتين تعديليتين في النظام الدولي، ولأنهما تمثلان التحدي الرئيسي أمام ازدهار الولايات المتحدة وأمنها، ما دفعها لإعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية، وتوجيه قوتها العسكرية للتهديدات المتزايدة التي تشكلها القوتان، ولا سيما بعد نجاحها في تقويض قدرة التنظيمات المتطرفة على شن هجمات إرهابية ضدها أو أحد حلفائها. ولهذا فقد حولت "استراتيجية الدفاع الوطني" لعام 2018، التي تصدرها وزارة الدفاع الأمريكية تركيز الجيش الأمريكي بعيدًا عن مكافحة الإرهاب، لصالح مواجهة تهديدات خصوم واشنطن الاستراتيجيين "بكين وموسكو".
ثانيًّا- ارتفاع تكلفة الحرب الأمريكية على أفغانستان، حيث تسببت في خسائر مالية واقتصادية وبشرية غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي. فوصلت التكلفة البشرية إلى ٢٤١٩ أمريكي، وأنفقت الولايات المتحدة منفردة 932 مليار دولار منذ عام 2001 في أفغانستان.
وقد تخطت المساعدات الأمريكية لإعادة الإعمار بالدولة ما أنفقته واشنطن على خطة مارشال بأكملها لإعادة بناء أوروبا فيما بعد الحرب العالمية الثانية بقيمة الدولار اليوم.
ثالثًا- الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان لم يغير من حالة الجمود بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية الشرعية المدعومة من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، ولهذا سعت إدارة الرئيس باراك أوباما في السابق لإنهاء وجود القوات العسكرية الأمريكية في أفغانستان، لكنها تراجعت مع عودة إحياء حركة "طالبان" لنشاطها، وعملت على زيادة عدد قواتها العسكرية هناك، لكن استمرار حالة الجمود بين الحكومة الشرعية بقيادة الرئيس "أشرف غني" وحركة طالبان، الذي لن يتغير في المستقبل القريب، قد دفع ترامب إلى تجاوز البنتاجون، وبدء محادثات سلام مع الحركة قد تنهي الوجود الأمريكي في أفغانستان.
رابعًا- سعي الرئيس ترامب إلى تحقيق إنجاز سياسي خارجي قبل الانتخابات الرئاسية المقرر لها في نوفمبر/تشرين الثاني من العام المقبل يعزز من فرص فوزه بولاية ثانية، ولا سيما بعد إخفاقاته المتتالية لتنفيذ ما وعد به قاعدته الانتخابية، مثل: إقامة جدار على الحدود مع المكسيك لإنهاء أزمة الهجرة غير الشرعية، وإنهاء نظام الرعاية الصحية للرئيس السابق "باراك أوباما"، بعد سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي أجريت 6 من نوفمبر 2018، ومعارضتهم الكثير من سياساته الداخلية والخارجية. وكثيرًا ما يركز رؤساء الولايات المتحدة الديمقراطيون والجمهوريون الطامحون في الفوز بفترة رئاسية ثانية في حال تأزم فرص تحقيق إنجاز داخلي على قضايا السياسة الخارجية، لسهولة تحقيقهم إنجاز فيها.
خامسًا- إبداء حركة "طالبان" قبولًا بالتفاوض مع الولايات المتحدة للتوصل لاتفاق سلام يُنهي الوجود العسكري الأمريكي بأفغانستان، وقد تجلت ملامحه في تعيينها أحد قادتها التاريخيين الملا "عبدالغني برادر"، الذي عرف عنه جنوحه للحل سلمي للحرب الأمريكية على أفغانستان، في منصب نائب قائد الحركة للشؤون السياسية ورئيسًا لمكتبها السياسي في الدوحة، وهو صاحب قرار حقيقي، وقد لا يكون بحاجة إلى استشارة القيادات الأخرى بالحركة في كل القرارات التي قد يتخذها.
قضايا رئيسية
تركز مباحثات السلام التي يقودها المبعوث الأمريكي "زاد" مع قيادات من حركة "طالبان" خلال جولاتها الست السابقة على 5 قضايا رئيسية، تتمثل في:
أولًا- انسحاب جميع القوات العسكرية من أفغانستان، والتي تضم نحو 14 ألف جندي أمريكي، و8 آلاف من قوات حلف شمال الأطلنطي "الناتو" التي شاركت الولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان" في أكتوبر/تشرين الاول 2001.
ثانيًّا- أن تقف حركة "طالبان" عملياتها العسكرية ضد قوات الشرطة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.
ثالثًا- تعهد الحركة بعدم تحول أفغانستان إلى ملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية مجددًا مثل تنظيم "ولاية خراسان" التابع لتنظيم "داعش"، وتنظيم "القاعدة"، أو استخدام الأراضي الأفغانية لشن هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى.
وبالفعل أكد بيان صدر عن وزارة الخارجية الأمريكية في 26 أبريل/نيسان الماضي بعد الاجتماع الثلاثي لممثلي الولايات المتحدة وروسيا والصين أن حركة "طالبان" تعهدت بمحاربة تنظيم "داعش"، وإنهاء العلاقات مع تنظيم "القاعدة"، وغيره من التنظيمات الإرهابية الدولية الأخرى، وضمان عدم استخدام المناطق التي تسيطر عليها لتهديد أي دولة أخرى.
رابعًا- انخراط "طالبان" في حوار مع الحكومة الأفغانية برئاسة "أشرف غني" المعترف بها أمريكيًّا ودوليًّا.
خامسًا- مطالبة الحركة بأن يرفع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة العقوبات التي يفرضها عليها وعلى قياداتها.
ورغم تفاؤل عديد من مسئولي الإدارة الأمريكية بأن المحادثات التي يجريها المبعوث الأمريكي الخاص مع ممثلي حركة "طالبان" ستؤدي لاتفاق سلام ينهي الحرب الأمريكية في أفغانستان، فإن هناك ثمة معوقات تحد من إمكانية التوصل له، يتمثل أولها في رفض حركة طالبان إجراء محادثات مباشرة مع حكومة "غني"؛ لأنها تصفها بـ"الدمية" بيد القوات الأمريكية، ما يزيد من الشكوك حول توافق الحركة على ترتيبات تقاسم السلطة مع الحكومة الأفغانية الشرعية في حال انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان.
وينصرف ثانيها إلى الخلاف بين الطرفين حول اتفاق نهائي ينهي الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، رغم توصلهما إلى اتفاق مبدئي خلال محادثاتهما في مارس/آذار الماضي، حيث تصر "طالبان" على ضرورة أن تغادر القوات الأجنبية البلاد قبل أن تفكر في وقف عملياتها القتالية، بينما تؤكد الولايات المتحدة أنها لن تنسحب قبل وقف إطلاق الحركة النار.
جهود لإنجاح المحادثات
يبذل المبعوث الأمريكي "زاد" جهودًا حثيثة لإنجاح محادثات السلام مع حركة "طالبان" من خلال الحصول على تأييد دول الجوار لأفغانستان، ولا سيما باكستان. وفي هذا الإطار، زار إسلام أباد يومي 29 و30 أبريل/نيسان 2019 قبل بدء الجولة السادسة من المباحثات مع الحركة. وفي أعقاب نهاية زيارته كتب على حسابه بموقع تويتر أن كل من التقى بهم يعترفون بالمكاسب التي سيحققها السلام مع "طالبان" للمنطقة. وقد أثنى على تدعيم القيادة الباكستانية للجهود الرامية لتسريع الحوار والمفاوضات مع الحركة، والتزامها بالمساعدة في الحد من العنف في أفغانستان.
ومن مصلحة باكستان استمرار حركة طالبان في محادثات مع الولايات المتحدة بهدف ضمان أن أي انسحاب أمريكي يتم بطريقة منظمة؛ لأن انهيار الدولة الأفغانية سيهدد المصالح الاقتصادية والأمنية لإسلام أباد.
وقد سافر "زاد" أكثر من مرة إلى أفغانستان لمناقشة آليات الاتفاق المبدئي التي يتم التوصل إليها مع الحكومة الأفغانية برئاسة "غني"، التي تم استبعادها من المحدثات التي تضم منافستها حركة "طالبان".
ويسعى المبعوث الأمريكي للحصول على موافقة القوى الإقليمية والدولية المؤثرة في إنجاح أو افشال أي اتفاق سلام تتوصل إليه الإدارة الأمريكية مع حركة "طالبان". وفي هذا الشأن التقى ممثلو الولايات المتحدة والصين وروسيا في موسكو في 25 أبريل/نيسان الماضي لبحث الوضع الحالي لعملية السلام الأفغانية. وقد اتفقت الأطراف الثلاثة على تدعيم عملية سلام شاملة، وانسحاب منظم ومسؤول للقوات الأجنبية من أفغانستان كجزء منها.
تداعيات عدة
هناك قلق كبير بين الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين من أن الولايات المتحدة ستسحب قواتها العسكرية مقابل لا شيء سوى الوعود غير القابلة للتنفيذ من قبل "طالبان"، ولكنها ستؤدي في التحليل إلى انهيار الحكومة الأفغانية المدعومة دوليًّا.
ويتخوف هؤلاء من تكرار إدارة الرئيس ترامب الخطأ الذي ارتكب في فيتنام، حيث نصت اتفاقيات باريس للسلام، التي تم التوصل إليها في يناير/كانون الثاني 1973، على الانسحاب الكامل لجميع القوات الأمريكية من جنوب فيتنام خلال 60 يومًا ووقف إطلاق النار وتسوية سياسية. ولكن بعد الانسحاب الأمريكي لم يتحقق أي منهما. ولهذا يصف السفير الأمريكي السابق في أفغانستان "ريان كروكر" المباحثات الأمريكية مع حركة "طالبان" بأنها "استسلام".
ويستعيد معارضو الانسحاب الأمريكي من أفغانستان تداعيات قرار الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" بسحب القوات العسكرية الأمريكية من العراق، والذي لم ينه الحرب الأمريكية في العراق، بل إنه أوجد فراغًا شغله خصوم الولايات المتحدة والتنظيمات الإرهابية، ما دفع الولايات المتحدة لإرسال قواتها مجددا لاستعادة الاستقرار والأمن العراق والإقليمي، ويرون أن أمام "ترامب" خيارين في أفغانستان أحدهما أن يحذو حذو "أوباما" ويترك البلاد لطالبان، أو التزام واشنطن بحماية مصالحها وقيمها وحلفائها.
وسيعزز توصل الولايات المتحدة إلى اتفاق سلام مع حركة "طالبان" من قوتها داخليًّا في وقت الذي حققت فيه مكاسب في ميدان المعركة ضد القوات الأفغانية، وسيطرتها على مناطق أكثر مما كان في السابق، حيث ينظر إلى الاتفاق على أنه اعتراف أمريكي ضمني بانتصار الحركة في معركتها ضد القوات الأمريكية والحكومة الأفغانية. وفي المقابل فإن أي اتفاق بدون مشاركة الحكومة الشرعية سيقوض قوتها ولا سيما أن الحركة لا تعترف بها.
ومع تسليم الإدارة الأمريكية قيادة أفغانستان إلى الحركة التي حاربتها لمدة 17 عامًا، لا يستبعد أن تتحول الدولة مجددا إلى ساحة جديدة للتطرف والإرهاب، حيث هناك تخوفات أمريكية جمة من أن تعيد "طالبان" السياسات المتشددة والمتطرفة التي كانت تفرضها حلال حكمها للبلاد من عام 1996 إلى 2001 ما يُهدر المكاسب التي حققتها أفغانستان خلال السنوات الماضية في تعزيز حقوق النساء والحقوق المدنية، وخاصة في وقت تتراجع فيه قدرة الولايات المتحدة على التأثير في الأحداث هناك، حيث ستصبح محدودة للغاية بمجرد مغادرة القوات الأمريكية لأفغانستان.
خلاصة القول، على الرغم من الجهود المضنية التي يبذلها المبعوث الأمريكي الخاص بأفغانستان "زلماي خليل زاد" للتوصل إلى اتفاق سلام مع حركة "طالبان" ينهي عقودًا من الصراع، فلا يزال التوصل لهذا الاتفاق بعيد المنال خاصة مع إعلان قيادات الحركة بجلاء رفضها للحوار مع حكومة "غني" حتى مع انسحاب الولايات المتحدة خصمها الرئيسي في الصراع.
ولتيقن الحركة أن الوقت في صالحها، ولا سيما مع رغبة الرئيس ترامب سحب القوات الأمريكية من أفغانستان في أسرع وقت، فإن طالبان ستتشدد في مطالبها، ولن تقدم تنازلات كثيرة عند التفاوض على الاتفاق النهائي للسلام مع الولايات المتحدة، وإن نجحت المحادثات في إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان، فإنها لن تنهي التنافس بين القوى المحلية الأفغانية، الذي يهدد استقرار الدولة.
**عمرو عبد العاطي: باحث متخصص في الشؤون الأمريكية