شهدت الصين خروج كميات هائلة من رأس المال الخاص الذي أدى إلى انخفاض سعر صرف عملتها، وهو ما أشعل المخاوف في السوق
وضعت وزارة التجارة الأمريكية مؤخرا قاعدة جديدة لفرض رسوم مكافحة دعم على منتجات الدول التي ترى الوزارة أنها تخفض قيمة عملاتها مقابل الدولار، والجديد أنها ستسمح بفرض هذه الرسوم حتى إذا كانت الدول المعنية ليست متهمة باستغلال سعر صرف عملاتها، طبقا للتقرير نصف السنوي الذي تقدمه وزارة الخزانة للكونجرس.
وإلى جانب الصين يقول البعض، وفقا لوكالة رويترز، إن هذه الرسوم قد تفرض على دول أخرى تشمل ألمانيا وأيرلندا وإيطاليا واليابان وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وفيتنام وسويسرا، والواقع أن قضية التلاعب بسعر الصرف كانت من بين القضايا التي تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمواجهتها منذ حملته الانتخابية.
وقال إنه سيوجه وزير خزانته بتصنيف الصين كبلد يتلاعب بسعر صرف عملته في اليوم الأول لتقلده منصبه. وسوف يسعى بعدئذ للتفاوض مع الصينيين لخفض فوائضهم التجارية الضخمة.
اتفاقية بلازا جديدة: هل هي أمر ممكن؟
مع سعي الولايات المتحدة للحفاظ على مصالحها والحفاظ على مكانة مهيمنة للدولار في نظام النقد الدولي أدخلت هذا النظام في أزمة شديدة في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، مع سحب تقييد حرية تحويل الدولار إلى ذهب.
وكان البديل هو تحول العالم من نظام أسعار الصرف شبه الثابتة المقرر في اتفاقيات بريتون وودز -التي عقدت عقب نهاية الحرب العالمية الثانية- إلى نظام أسعار الصرف المعومة. ومن الممكن أن يؤدي هذا إلى ميل هذه الدولة أو تلك إلى استغلال هذا النظام، خصوصا فيما بات يعرف في الكتابات الاقتصادية بـ"التعويم القذر أو المدار".
والدليل على ما نقول أن الصين لم تكن التجربة الأولى في هذا الصدد، خصوصا بتعرضها للضغوط الأمريكية.
تدخل الصينيون بكثافة في الاتجاه العكسي للسوق، فبدلاً من شراء الدولارات لإبقاء الرينمبي ضعيفا، اشتروا كميات كبيرة من الدولارات للحيلولة دون انزلاقه أكثر، وتدخلهم هذا أسهم في تقوية التنافسية الأمريكية عوضا عن أن يهدمها
إذ كانت الولايات المتحدة قد دعت إلى ضرورة التدخل من قبل ضد كل من اليابان وألمانيا الغربية آنذاك للعمل على رفع قيمة سعر صرف عملة البلدين أمام العملة الأمريكية في عام 1984، حيث كان البلدان يحققان فائضا كبيرا في موازينهما التجارية مع أمريكا، خصوصا أن الولايات المتحدة كانت في هذا الوقت أيضا تعاني من ركود اقتصادي شديد بدءا من أواخر السبعينيات.
ومع وجود علاقات قوية بين البلدان الثلاثة، بل ومكانة مهيمنة للولايات المتحدة، تم الاتفاق على ما عرف باتفاقية بلازا في 22 سبتمبر/أيلول عام 1985 بين كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا الغربية واليابان على تعديل أسعار الصرف، بحيث يسمح بزيادة أسعار صرف عملات هذه البلدان أمام الدولار الأمريكي، خصوصا سعر صرف الين الياباني وسعر صرف المارك الألماني.
لكن استمرار سعر صرف الدولار في التراجع لأقل من المستويات التي كان متفقا عليها نتيجة للمضاربة، تم الاتفاق من جديد على ما عرف باتفاق اللوفر في فبراير/شباط 1987 للعمل على رفع سعر صرف الدولار أمام العملات الرئيسية الدولية الأخرى، ومع ذلك فإن الميزان التجاري الأمريكي استمر يحقق عجزا كبيرا على مدار هذا الزمن مع اختلاف الدول التي تحقق فائضا في تجارتها مع الولايات المتحدة.
وكان يحدو بعض صناع القرار ومراكز الأبحاث الأمريكية حتى عام 2010 الأمل في التوصل إلى اتفاق مماثل لاتفاق بلازا، مع تغير أطرافه، بحيث تحل الصين وهونج كونج وماليزيا وتايوان مثلا محل اليابان وألمانيا لتعديل سعر صرف هذه العملات بالارتفاع أمام الدولار الأمريكي للعمل على القضاء على الاختلالات في موازين المدفوعات الناجمة عن العجز التجاري الكبير في الولايات المتحدة والفائض الكبير في هذه البلدان خصوصا في الصين.
وإذ قدرت الجهات الأمريكية أن سعر صرف العملة الصينية آنذاك كان مقدراً بأقل من قيمته الحقيقية بنحو 40% مقابل الدولار الأمريكي، ولكن كما هو واضح فهناك فارق كبير بين طبيعة العلاقة الأمريكية بكل من اليابان وألمانيا، خصوصا وقت اتفاق بلازا، والعلاقات الأمريكية - الصينية في الوقت الراهن.
والمشكلة الكبرى هي التقديرات الحديثة الخاصة بهذا التلاعب في العملة. إذ يقول الاقتصادي فريد برجستين: "لقد كنت من بين الأوائل الذين لفتوا الانتباه لتلاعب الصينيين وغيرهم بعملتهم والمطالبة بإجراءات قوية لمواجهة ذلك، ولكن ينبغي إدراك أن الموقف قد تغير بشكل دراماتيكي، خصوصا خلال عامي 2015 و2016".
وشهدت الصين خروج كميات هائلة من رأس المال الخاص الذي أدى إلى انخفاض سعر صرف عملتها، وهو ما أشعل المخاوف في السوق من الخفض المضطرب للعملة الصينية (الرينمبي).
وشهادة حق في صالحهم، تدخل الصينيون بكثافة في الاتجاه العكسي للسوق؛ فبدلا من شراء الدولارات لإبقاء الرينمبي ضعيفا، اشتروا كميات كبيرة من الدولارات للحيلولة دون انزلاقه أكثر.
وتدخلهم هذا أسهم في تقوية التنافسية الأمريكية عوضا عن أن يهدمها. وهكذا فإن التلاعب بالعملة (بما في ذلك الدول الأخرى بخلاف الصين) توقف وأصبح ذكرى.
وأشار برجستين إلى أن التسهيل التجاري والمرسوم التجاري لعام 2015 يتضمن ثلاثة معايير لتصنيف بلد ما باعتباره يسيء التصرف في مجال سعر الصرف؛ هي:
تحقيق فائض تجاري ثنائي ضخم مع الولايات المتحدة، وهو ما تحققه الصين وألمانيا وبعض الدول الأخرى بالفعل. وتحقيق فائض كلي في ميزان الحساب الجاري، وهو ما تترجمه وزارة التجارة على أنه يعني فائضا يبلغ أكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يزيد على ما تحققه الصين وغيرها من البلدان حاليا.
وأخيرا حدوث تدخل "عنيد من جانب واحد" في أسواق الصرف، للحيلولة دون ارتفاع سعر صرف العملة، وهو بكل وضوح ما لا تقوم به الصين أو غيرها في الوقت الراهن.
وفي النهاية، فأي محاولة لفرض عقوبات على الصادرات الصينية وغيرها من البلدان للولايات المتحدة تحت دعوى تلاعبها بالعملة، وهو الأمر غير الصحيح، سيدفع الصين والبلاد الأخرى إلى عدم الوقوف مكتوفة اليدين إزاء الولايات المتحدة، وغالبا ما ستكون هناك ردود فعل انتقامية.
واللافت للانتباه هو إضافة بلدان مثل ألمانيا وإيطاليا إلى قائمة الدول المتهمة بالتلاعب بعملتها مؤخرا. وسبق أن قدم بيتر نافارو رئيس المجلس التجارة الوطني الذي أسسته إدارة ترامب في دراسة في سبتمبر/أيلول 2016 تضمنت استنتاجين غريبين.
الأول: أن التعويم الحر يقلص من الاختلالات التجارية - وبناء على ذلك، فإن الاختلالات التجارية تعد مظهرا من مظاهر "التلاعب بالعملة"، وثانيا: أن عضوية ألمانيا في منطقة اليورو خيار للسياسة الاقتصادية لإبقاء سعر صرف ألمانيا بأقل من قيمته الحقيقية، وهو ما يعد تصرفا من تصرفات التلاعب بالعملة!
ويشير أحد الاقتصاديين الأمريكيين إلى أنه "لو صنفت الولايات المتحدة عضوية ألمانيا في منطقة اليورو باعتبارها تشكل تلاعبا بالعملة، فهل ستدعو الإدارة إلى انسحاب ألمانيا من المنطقة؟ أم أن واشنطن ستفرض رسوما جمركية على ألمانيا وحدها؟ وإذا فعلت هذا فإنه سيكون أمرا يبعث على الفوضى أكثر".
فلن يكون هذا غير شرعي في ظل قواعد منظمة التجارة العالمية فقط، ولكنه على الأغلب سيدفع الاتحاد الأوروبي لتوحيد صفوفه ليقوم بالانتقام. وسوف تكون النتيجة حربا تجارية كبرى، وأضحت كوريا الجنوبية مؤخرا موضع اهتمام في واشنطن مع انخفاض قيمة الوون الكوري الجنوبي بنحو 4.5% مقابل الدولار.
الخلاصة إذن أن ما قد تقترحه وزارة التجارة الأمريكية من فرض رسوم عقابية على بعض البلدان التي تحقق فائضا تجاريا مع الولايات المتحدة لاتهامها بالتلاعب في سعر صرف عملتها لإكساب منتجاتها قدرات تنافسية أعلى، حتى إن تعارض ذلك مع تقديرات وزارة الخزانة فسوف يعد مقدمة لحروب تجارية أخرى أكثر تعقيدا من الحرب التي حدثت مع الصين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة