المؤكد هو أن العالم لم يعد كما كان، ولا يمكن أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء ما قبل انتخاب دونالد ترامب وسكنه في البيت الأبيض.
لا يختلف أحد على الأهمية القصوى للولايات المتحدة بالنسبة إلى العالم الذي نعيش فيه مهما اختلفت الأقاليم والدول أو تباعدت من حيث القوة العسكرية أو الاقتصادية أو الثقافية. الجميع في انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية وما سوف تفضي إليه؛ ليس فقط من زاوية من سوف يكون فائزا فيها وإنما إلى أين سوف يشير ذلك من تدعيم لقوى اقتصادية واجتماعية وسياسية أكثر عمقا من أشخاص قادة الدول.
المؤكد هو أن العالم لم يعد كما كان، ولا يمكن أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء ما قبل انتخاب دونالد ترامب وسكنه في البيت الأبيض لأربع سنوات وضع فيها بصمات كبرى على السياسة العالمية. بصمته الكبرى على الولايات المتحدة ذاتها نبعت من نمو النزعة القومية أولا، ومن ضمور التوجهات الليبرالية ثانيا، وثالثا من تكوين ائتلافات انتخابية جديدة لم تعتد عليها الدولة الأمريكية منذ سيطرة المؤسسة الشرقية على الحياة السياسية الأمريكية، وما نجحت فيه من تحالف للأقليات لم تعد الأغلبية البيضاء تتوافق معها. ولكن ربما تكون أكثر البصمات وضوحا هي تلك التي أنجزها الرئيس عندما توافقت آراؤه مع أغلبية مجلس الشيوخ الجمهورية على اختيارات جديدة لثلاثة قضاة جدد للمحكمة الدستورية العليا كان آخرهم القاضية "إيمي كوني باريت" التي من المقرر الانتهاء من التصويت عليها في ٢٦ أكتوبر الجاري، لكي يكون الميزان ما بين المحافظين "الجمهوريين في أغلبهم" والليبراليين "الديمقراطيين في أغلبهم" هو ٦ إلى ٣؛ وهو ما يعتبر أغلبية كاسحة للطرف الأول سوف تترك آثارها الجوهرية خلال السنوات والعقود المقبلة على المجتمع الأمريكي والدولة الأمريكية كلها، لما للمحكمة من نفوذ طويل المدى على تفسير الدستور الأمريكي، وعلى الحكم في القضايا التي يختلف عليها المجتمع الأمريكي بشدة ويعجز الكونجرس عن التوصل إلى توافق سياسي بشأنها.
ومن اللافت للنظر أن الأقدار قد اختارت دونالد ترامب لكي يكون في البيت الأبيض في اللحظة التي ترحل فيها القاضية "روث بادر جينسبرج" إلى الرفيق الأعلى، وهي التي كانت واحدة من أهم أركان الليبرالية السياسية والاجتماعية داخل المحكمة العليا، لكي تصل "إيمي كوني باريت" المحافظة وتلميذة القاضي المحافظ الخالد "أنطوين سكاليا".
النظام السياسي الأمريكي كما هو معلوم من النظم المعقدة القائمة على الفصل بين السلطات وتوازنها "التنفيذية والتشريعية والقضائية"، وقد وضعها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة بحيث لا تستطيع سلطة منها أن تستبد أو تصير هي الحاكمة للحياة الأمريكية. ولم تكن هناك صدفة أن تكون انتخابات مجلس النواب لعامين فقط قابلة للتجديد حتى يكون "النائب" لصيقا بقاعدته الانتخابية؛ وانتخابات مجلس الشيوخ لمدة ستة سنوات قابلة للتجديد حتى يكون لدى "الشيخ Senator" القدرة على التركيز والدراسة وتقديم الحكمة؛ والرئيس لمدة أربعة سنوات تجدد لمرة واحدة فقط حتى يكون أقرب إلى الشعب من ناحية، وغير قادر على الاستبداد من ناحية أخرى بعد ثماني سنوات على أكثر تقدير. المحكمة الدستورية العليا على غير ما هو موجود في ذلك كله قضاتها يقضون مدى الحياة أو عندما يقرر القاضي نفسه اعتزال العمل. لا أحد رئيسا كان أو مجلسا نيابيا يستطيع فصل قاضي المحكمة التي هي الجهة العليا للتحكيم في البلاد فيما يخص معاني الدستور، وسلامة القوانين، والاحتكام عند الاختلاف والتعارض ساعة الانتخابات. عمليا، وهذه ملاحظة هامة، إن قضاة المحكمة يتم اختيارهم من قبل رئيس الدولة "السلطة التنفيذية الأقرب للقضاة الفيدراليين والمحليين"، ولكن التأكيد والتصديق والتعيين يأتي من قبل مجلس الشيوخ "السلطة التشريعية الأكثر حكمة والمعبرة عن الولايات المشاركة في الاتحاد الأمريكي".
تاريخ المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة تاريخ طويل وممتد وممتلئ بالكثير من القضايا التي شكلت التاريخ الأمريكي منذ الاستقلال وتشكيل الدولة الأمريكية في عام ١٧٨٩ بقيادة جورج واشنطن. وكان على المحكمة أن تحافظ على التوازن الدقيق بين الولايات التي أباحت العبودية وتلك التي لم تبحها، وعلى مدى سبعة عقود، وحتى نشوب الحرب الأهلية في ١٨٦٠. خلال هذه الفترة حصل ١٢ تعديلا دستوريا في الدولة، وأثناء الحرب التي استمرت حتى ١٨٦٥ حصلت ثلاثة تعديلات دستورية أخرى ركزت على حقوق العبيد في الحرية والتصويت والترشيح للمناصب العامة. بعد الحرب ولفترة طويلة كان تكوين المحكمة يسير في الاتجاه المحافظ الذي أقر مبدأ "متساوون ولكن منفصلون"، بمعنى أنه إذا كان البيض والسود متساوين من حيث المبدأ فإن ذلك لا يعني أنهم يشكلون مجتمعا واحدا يعيشون فيه مع بعضهم البعض. هذا المبدأ كانت ترجمته ما عرف بقوانين "جيم كراو" التي كرست الفصل العنصري. ولكن مع بداية القرن العشرين أخذت المحكمة في التحرر تدريجيا من "محافظتها" وتبنت اتجاهات ليبرالية أباحت التصويت للنساء عام ١٩١٩؛ وساندت بأحكامها الصفقة الاجتماعية التي أقرها الرئيس روزفلت للخروج من الكساد العظيم. ومع عقد الستينات من القرن الماضي دخلت المحكمة عصرا ليبراليا واسع النطاق مع قانون الحقوق المدنية التي أباحت دخول السود إلى مدارس وجامعات الولايات الجنوبية، كما حرمت كل ما يخرق قاعدة المساواة بين الرجل والمرأة أو بين البيض والملونين سواء في المدارس أو دور العبادة أو المطاعم أو وسائل المواصلات حتى وصلت الأحكام إلى إباحة الإجهاض وزواج المثليين.
وبالطبع فإن هناك الكثير من الخلافات الفكرية والسياسية بين المحافظين والليبراليين، ولكن منطلقاتهم الدستورية تعكس ذلك من خلال الإجابة على سؤال كيف ننظر للدستور وعما إذا كان ذلك وثيقة أصلية حرفية وضعها المؤسسون الأوائل من أجل حماية الأجيال القادمة؛ أو أنها وثيقة حية تتكيف مع العصر والزمان والتغييرات التي توجد فيه. المحافظون أخذوا بوجهة النظر الأولى بينما نظر بإيجابية الليبراليون إلى وجهة النظر الثانية. وهكذا فإن تأكيد باريت المنتظر سيحل محل أيقونة ليبرالية بفقيه محافظ بشدة تشير آراؤه إلى أنها قد تصوت لمزيد من الحد من حقوق الإجهاض وزواج المثليين وشرعية قوانين للصحة العامة انطلاقا من التفسير الحرفي للدستور، وهي قضايا تثير حيوية الجمهوريين المحافظين والناخبين الإنجيليين وأمامهم المعارضون من الديمقراطيين والليبراليين. ويمكن أن تشغل باريت، 48 عامًا، المقعد مدى الحياة لعقود؛ وهكذا تنضم إلى اثنين آخرين من القضاة الشباب المحافظين بشدة اختارهم ترامب للمحكمة العليا. أول تعيينين لترامب، نيل إم غورسوش وبريت كافانو، في الخمسينيات من العمر. وسيمثل الثلاثي ثلث الجسم ويشكلون 6-3 أغلبية محافظة جديدة سوف يكون بمقدورها أيا ما كانت نتيجة الانتخابات الحالية والانتخابات التالية لها ولفترة طويلة أن تعيد تشكيل الحياة السياسية والحياة الأمريكية كلها خلال العقود المقبلة.
"إيمي كوني باريت" ذاتها قاضية حصلت على أرفع الدرجات العلمية في القانون، وكانت واحدة من تلاميذ القاضي "انطوين سكاليا" كمتدربة، وهي متزوجة من محام شهير في ولاية إنديانا حيث تعيش. اللافت للنظر بالنسبة لها أنها أم لسبعة أطفال منهم اثنان بالتبني من "هاييتي"، وهي ملاحظة عكست موقفها من "العنصرية" بوجه عام، فضلا عما إذا كانت تقدم مثلا للمرأة العاملة التي تستطيع تربية أسرة كبيرة الحجم بينما تقوم بالحكم في أكثر القضايا دقة التي لها علاقة بالزواج والصحة العامة وغيرها من القضايا التي تشكل المجتمع. تاريخ المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة يشهد بأن القضاة لا يقلون في ذلك عن الرؤساء حين يرسم كل منهم تاريخه ومعه تاريخ الدولة الأمريكية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة