لم يكن صباح ذلك اليوم عادياً أبداً، كان مشحوناً بفرح غامر، وبالقلق أيضاً، كان الجميع يخشون أن يحدث شيء، أي شيء يمنع الإعلان الرسمي، وكان معظم أفراد أسرتي، والدي وأعمامي وأشقائي وأقاربي، في حالة انشغال ونقاشات لم تتوقف منذ عامين.
كنت في العاشرة من عمري، وقد درست تاريخ الخليج العربي وتاريخ الإنسان في كل إمارة في هذه المنطقة من العالم، سواء ذلك التاريخ الذي يعود إلى العصر الحجري (6000- 3500 ق.م) حيث كانت تعيش على هذه الأرض جماعات بدوية تجمع النباتات وتعتمد على الصيد وتنتج الأواني الفخارية في أبوظبي، والشارقة، وأم القيوين، ورأس الخيمة، أو في العصر الحجري الحديث، التي تميزت بأحوال مناخية رطبة فسمحت لسكان الإمارات بالعيش في الداخل أو على الساحل معتمدين على الزراعة وصيد الأسماك والحيوانات، وفي العصر البرونزي (3200- 1300 ق.م) التي شهدت ثلاث فترات رئيسة، هي (فترة جبل حفيت، فترة أم النار، وفترة وادي سوق).
وكذلك نقرأ عن الإنسان على هذه الأرض خلال العصر الحديدي، حيث تأكد من خلال الحفريات الأثرية عن بداية ظهور تقنية جديدة للري على شكل أفلاج مكنت من استخراج المياه الجوفية، وسمحت بمرور الماء من جبال الإمارات إلى الواحات المنخفضة لسد احتياجات الزراعة، وكذلك ندرس تاريخنا منذ قدوم الإسلام وحتى العهد البرتغالي في العام 1498م بعد الرحلة البحرية الناجحة التي قام بها البحار البرتغالي فاسكو دي غاما حول طريق رأس الرجاء الصالح، فوصل البرتغاليون إلى شبه الجزيرة العربية، فاحتكروا التجارة في المحيط الهندي، فسيطروا على تجارة التوابل والفلفل ولعبوا دور الوسيط في التجارة بين الموانئ واستخدموا السلاح لفرض قوتهم وسيطرتهم على السكان والتجار المحليين.
كنا نقرأ بشغف واعتزاز عن «انتفاضة اليعاربة» التي لم ترتض الوجود البرتغالي في كل من جلفار ودبا وصحار ومسقط، فأطاحت بالقوة البرتغالية التي كانت تتنافس مع القوى الأوروبية الأخرى من الإنجليز والهولنديين، فأدت تلك المنافسة ثم الحرب الثلاثية بين الهولنديين الإنجليز والفرنسيين عام 1750 إلى ضعف سيطرة الهولنديين ففقدوا معظم ممتلكاتهم في المحيط الهندي، ومع أنهم عززوا مركزهم في جزيرة خرج بإقامة حصن ومصنع، واستولوا على الأنشطة الاقتصادية المتعددة التي كانت بيد السكان العرب الأصليين بما في ذلك مصايد اللؤلؤ، إلا أن مقاومة السكان العرب المحليين قد أدت إلى هزيمة الهولنديين وإخراجهم من جزيرة خرج في العام 1766.
خلال العهد البريطاني (1720-1968) عرفنا كيف تنامت قوة (القواسم) التي بسطت سلطتها على مسندم والمناطق الشمالية والشرقية من الخليج العربي، وكيف بنوا أسطولاً يزيد على 60 من السفن الكبيرة والذي أقلق البريطانيين على الممر البحري إلى الهند، وكيف وقعت بريطانيا سلسلة من الاتفاقيات مع الإمارات المتصالحة في العام 1892م، رغبة من بريطانيا بتحييد القوى العالمية الأخرى، مقابل تعهّد البريطانيين بتحمّل مسؤولية الدفاع عن المنطقة من أيّ عدوان خارجي وسلامة الطريق البحري والتي مهدت لنشوء إمارات الساحل المتصالح، وحتى أعلنت الحكومة البريطانية بداية العام 1968م عن نيّتها الانسحاب من الخليج نهاية عام 1971م.
بالنسبة لنا، ولكل من عاش على هذه الأرض قبل تاريخ 1968، كانت كل لحظة وكل موقف وكل حدث يعني شيئاً مهماً ومثيراً، كنا نعيش على أمل عظيم بأن نتحرر من البريطانيين بشكل كامل، وبأي ثمن، وأن نستقل بهويتنا التاريخية وحضارتنا التي طُبعت في قلوبنا، ولأننا كنا نعيش في ذات الحي مع المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في العين، وكان جدي «السيد عبدالرحيم السيد» مشهوراً بقراءة القرآن الكريم، وجمعت والدي صداقة طفولة مع الشيخ زايد، ثم تطورت صداقته مع ابن خالة والدي «عبدالجليل الفهيم»، وكان قريباً ومقرباً منه، فقد كانت الأسرة كلها ترقب وتترقب منذ الاجتماع التاريخي في السميح يوم 18 فبراير 1968م وإعلان موافقة الشيخ زايد والشيخ راشد، رحمهما الله، دمج إماراتي أبوظبي ودبي في اتحاد واحد، والتي تعرف بـ «اتفاقية الاتحاد» والتي مهدت بشكل كامل لتوحيد الساحل المتصالح.
لم يتوقف الترقب لحظة، كنا أطفالاً ولكننا كنا تواقين إلى تحقيق هذا الحلم الكبير، وبقينا نحسب يوماً بيوم لانسحاب البريطانيين ونتابع عبر الأسرة والمدرسة منذ 18 يوليو 1971 حين قرّر حكّام ست إمارات من الإمارات المتصالحة، هي: أبوظبي، ودبي، والشارقة، وعجمان، وأم القيوين، والفجيرة، تكوين الإمارات العربية المتحدة لتنفيذ هذا القرار.
انسحب البريطانيون في 30 نوفمبر 1971، وتعلقت القلوب بأبوظبي والشيخ زايد والشيوخ حكام الإمارات وآمال لا حدود لها أن يتم تنفيذ القرارات، ومع أنني كنت ما زلت طفلاً ولكنني لن أنسى، ولن ينسى جيلي كله تلك اللحظات المباركة من الثاني من ديسمبر 1971 حين اجتمع حكام الإمارات وتم الإعلان رسمياً عن تأسيس دولة مستقلة ذات سيادة وأرض وعلم واحد، وهوية إنسانية واجتماعية واحدة، فصدر البلاغ التاريخي الذي يقول «يزف المجلس الأعلى هذه البشرى السعيدة إلى شعب الإمارات العربية المتحدة وكل الدول العربية الشقيقة، والدول الصديقة، والعالم أجمع، معلناً قيام دولة الإمارات العربية المتحدة دولة مستقلة ذات سيادة، وجزءاً من الوطن العربي الكبير.»
صحيح أننا نحتفل بعيد الاتحاد الخمسين المبارك، الذي حققت فيه قيادة وشعب الإمارات إنجازات لا مثيل لها، في زمن قياسي، لكن هذا الاتحاد يقوم على إرث يمتد لآلاف السنين، بين أبناء هذه الأرض الطيبة، إرث حضاري عريق، أركانه العزم والمثابرة والتفوق، وقوامه العدل والإنصاف، يمتزج فيه الأصالة والنبل مع الحب والتسامح، يرتفع بهمة قيادته وشعبه نحو الأعالي، نحو المستقبل المشرق، وهي ترفع راية دولة الإمارات العربية المتحدة.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة