في فجر 25 فبراير/شباط 1981، في مطار البطين، مطار أبوظبي الدولي آنذاك، حطّت بنا طائرة من نوع "دال سين عشرة".
كانت الطائرة تابعة للخطوط الجوية السويسرية، قادمة من مطار نواكشوط في رحلة مباشرة دون توقف استغرقت 12 ساعة.
كان الجو مائلاً للبرودة، والرطوبة في حدها الأدنى.. كنتُ وقتها حديث السن ضمن مجموعة من الشباب، شكّلت فيما بعد نواة أول تعاون أمني بين الإمارات وموريتانيا.
لم يكن ساعتها هناك فرق كبير على مستوى البِنى التحتية بين وطني الأول والثاني، إنْ تمت مقارنة البنية التحتية والمظهر العام للعواصم.
ولكن الخطة الخمسية للنهوض، التي وضعها القائد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -طيّب الله ثراه- كانت في أوجها، وكنا نصادف سموّه في بعض الأوقات بميادين الأشغال متابعاً للتنفيذ بنفسه، فلا يغادر أذنيك هدير الرافعات والحفّارات والشاحنات، ولا تخطئ عيناك حشود العمال والمهندسين.
كانت في أبوظبي جامعة واحدة ومستشفيات تعد على أصابع اليد الواحدة.. لم تكن هناك خطوط جوية محلية.. كانت الطرق الخارجية خطيرة وصعبة والشوارع الداخلية محدودة، والأماكن الترفيهية قليلة، وكانت كل إمارات الدولة على ذات النسق، ولكن القيادة الملهمة كانت بحكمتها ورؤيتها تعيش هذه المرحلة بطموحها وتخطيطها وإيمانها بديمومة رسالتها وقدرات حاملي الأمانة من بعدها.
وسُخّرت كل الطاقات لعمليات الاستثمار في العنصر البشري، بوصفه محور التنمية والاستدامة دون حدود، وتم استنساخ أفضل الممارسات التطبيقية وأدق المقارنات المعيارية، فتغيّر نظام التعليم، لتتغير مخرجاته وتخدم متطلبات السوق المحلية، ويحمل جيل التوطين مشعل أمانة التطوير، وكأن مؤسس الاتحاد -طيّب الله ثراه- ينظر بحكمته ورؤيته الثاقبة إلى مكانة الدولة اليوم وفق ما كان يؤمن به بالأمس.
وتؤتي تلك التربية الأبوية الرائعة نتائجها، وكأن نتائج الخمسين قد حُصدت قبل بدئها، وولدت أفكارا بناءة، وشكّل الإعلام رافداً مهماً، فكان في الخندق الأمامي بالقلم والورقة وبالصوت والصورة المعبرة، التي تُغني عن ألف كلمة حينها، وحلّت تقنيات الذكاء الاصطناعي محل النمط الإداري والتقني القديم، لتصبح دولة الإمارات في وقت قصير واحدة من الدول المطبقة لنظم الجودة والتطبيقات الإلكترونية في ظل إدارة لا ورقية.
نعم، إنها خمسون سنة بحساب السنين الضوئية، حيث العطاء والتحدي والنجاح والطموح وكسب الرهان، فالسنة الضوئية تتجاوز مئات السنين، لأن أعمار الدول والأمم لا تقاس بالزمن، بل بما تحقق من تطور ومكاسب وإنجازات.
وبتحليل العلاقة الطردية بين النتائج والزمن، نراها موزعة على ثلاث مراحل مصهورة في بوتقة واحدة، وعاؤها الأوطان ومحتواها الإنسان، وقد جسّد المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، هذا الارتباط بقوله "مَن ليس له ماضٍ، ليس له حاضر ولا مستقبل"، في تطابق مع الفيلسوف العربي "ابن رشد" حين قال إن "القادة المميزين يصنعون أزمنة الرخاء، والعكس صحيح".
وقد جمع الأب المؤسس رحمه الله خلال قيادته، بين الجد والتواضع واللين والحزم والإنسانية وسماحة الدين والعدل والأمن والرقابة والحِلم والصرامة واللطف، يتجلّى ذلك في حكمته وطموحه المتَّقد، فقادت جهوده، وجهود مَن حوله المنتَقين بعناية، إلى بناء الاقتصاد وتأسيس الحوكمة وتطوير البنية التحتية وصون الأمن العام والحقوق والحريات ونبذ الفُرقة والكراهية وتعزيز السلام وتقوية المحبة والتقارب بين الشعوب والذَّود عن الحِمى الخليجي، مشاركا من أجل ذلك في تأسيس مجلس التعاون الخليجي عام 1981 في قمته الأولى بـ"أبوظبي"، وسط ظروف دقيقة، حيث تمكّن من قيادة سفينة السلم والتنمية قرب نيران حربَيْ الخليج الأولى والثانية.
لقد جسّد الأب المؤسس بكل وضوح صفات القائد الفذ والرُّبان الماهر الجامع لسمات العباقرة والمتصف بالقدرة على قيادة التغيير والتطوير، فتوالت التنمية في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية وتمكين المرأة الإماراتية بوصفها نصف المجتمع ونواة التنمية، وسارت على النهج من بعده القيادة الرشيدة، فكانت خير خلف لخير سلف، مكملة مسيرة البناء فسنَّت قوانين تجريم الكراهية وعززت حماية حقوق الإنسان وأصدرت وثيقة الأخوة الإنسانية، فأصبحت دولة الإمارات مضرب الأمثال في العدل والمساواة وجذب الاستثمارات الأجنبية، وغدت وجهة وغاية كل باحث عن السعادة وطِيب المُقام، حيث يعيش على أرضها الآن أكثر من مائتيْ جنسية من مختلف الإثنيات والديانات، وقادت سلام الشجعان وواجهت الثلاثي عدو الحضارة، الإرهاب والتطرف والكراهية، وتصدت للظلاميين والإرهابيين المسيئين للإنسانية، فكسبت معركة البناء، مستلهمة روح ورسالة قائد المسيرة ومؤسس الاتحاد رحمه الله، وواجهت أخطر جائحات عرفتها البشرية مثل "كوفيد-19"، فبدت دولة الإمارات في أبهى حُللها، محتلة المرتبة الأولى في مصاف دول العالم المتقدم من حيث مؤشرات أداء النمو والتقدم لتكون:
أول دولة تخصص عاماً للتسامح.. وأول دولة عربية تصل إلى الفضاء عبر مسبار الأمل.. وأول دولة إقليمية تستخدم الطاقة النووية للأغراض السلمية عبر مفاعل "براكة" النووي.. وأول دولة حسب مؤشر السعادة بين الأفراد وقيمة دخل الفرد، مقارنة مع الدول الصناعية المانحة.. ومن أوائل الدول المستخدمة للذكاء الصناعي.
ليس من رأى كمن سمع، فالآن وأنا أتذكر جيدا لحظة وصولي في ذلك اليوم الفارق في حياتي إلى مطار البطين، أبوظبي، قبل أربعين سنة، أتساءل في نفسي: هل من وجه للمقارنة بين ما كان بالأمس وما وصلت إليه الإمارات اليوم؟!
في هذه المرحلة، التي وصلت فيها إلى الإمارات أكثر من مرة للفضاء، تراجعت وتقهقرت دول عدة للوراء واختفت دول من الخارطة وتحولت دول أخرى إلى بؤر للفوضى وباتت غيرها في عداد الدول الفاشلة كلياً، فما أنجزته الإمارات اليوم معجزة ونهج قيادي يستحق التدريس في جامعات ومعاهد العالم ومنظماته الدولية، بوصفه النموذج الأمثل للتنمية والنجاح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة