المصري القديم وتغير المناخ.. المواجهة بالكساء والدواء وتعديل النشاط
ربما يكون مصطلح "التغيرات المناخية" مستحدثا، لم يستخدمه المصري القديم قبل آلاف السنين، لكنه أدرك بفطنته أن الطقس والمناخ متغيّر، وأن عليه الاستعداد للتعامل مع تلك المتغيرات.
وجاء استحداث هذا المصطلح بهدف التنبيه إلى الدور الذي يلعبه البشر في إحداث هذه التغيرات، وهو ما يختلف عن الحضارات القديمة، ومن بينها الحضارة المصرية، حيث لم يكن للإنسان أي دور في التأثير على البيئة، ولكنه فَهَم وعَرَف تقلباتها وكيف يواجهها.
ويقول المؤرخ بسام الشماع لـ"العين الإخبارية" إن من أبرز الدلائل التي تشير إلى أن المصري القديم عرف أن هناك مناخ متغير قد يتسبب في حدوث جفاف، هو تلك الآبار التي عثر عليها مؤخراً في منطقة تسمى "نبتا بلايا"، والتي تقع في منطقة تبعد 100 كيلومتر غرب مدينة أبو سمبل جنوبي مصر.
وتوصف هذه المنطقة في الوقت الراهن بأنها "أسخن منطقة بأفريقيا"، وقد أدرك المصري القديم خطورة أن تغيب الأمطار عن الهطول في تلك المنطقة، فأنشأ الآبار لتخزين المياه، وكان يتعرّف على الموعد المنتظر لهطول الأمطار عن طريق "الدائرة الفلكية"، حيث عثر بتلك المنطقة على أول اختراع فلكي عرفته البشرية وهو دائرة قطرها 4 أمتار تتكون من مجموعة من الأحجار، وعندما تمت دراسة هذه الأحجار وجدوا أنها قد رصت بعناية، بحيث تتوجه إلى المكان الذي ستشرق فيه الشمس في فصل الصيف، وهو موسم الأمطار في مصر القديمة، لأن مناخ مصر وقتها كان مختلفاً، كما يؤكد الشماع.
ويوضح أن المصري القديم قام بتقسيم السنة إلى 12 شهراً، مكونة من ثلاثة فصول، كل فصل منها 4 أشهر، واعتمد هذا التقسيم على حالة الطقس والمناخ، فكان فصل (آخت) إشارة لموسم الفيضان و(بريت) هو ما يوازي الربيع، أما (شمو) فكان موسم الحصاد.
وكما كان المصري القديم في "نبتا بلايا" قبل توحيد القطرين، مستعداً لمواجهة أي تغير مناخي يحدث بتلك الفصول.
تشير برديات ومناظر منحوتة إلى أنه واجه تداعيات تلك التغيرات، ففي المتحف المصري بالتحرير تشير لوحة "كوم الحصن"، إلى أن الملك بطليموس الثالث، استورد بذور وحبوب للمصريين، عندما ضرب الجفاف البلاد ولم تكن هناك حبوب.
ويشير الشماع أيضا إلى منظر منحوت في منطقة جزيرة سهيل في مدينة أسوان، تمت تسميته بـ"لوحة المجاعة"، ويحكي هذا المنظر قصة من أيام البطالمة في وقت الملك "جيسر" أو ما يطلق عليه "زوسر"، حيث حدثت مجاعة، ويكشف المنظر عن حالة الناس والحيوانات والزراعة وقتها.
ويضيف أن هناك منظر شبيه يوجد في منطقة سقارة بالجيزة في عهد أحد الملوك ويدعى "الملك ونيس"، ويصور هذا المنظر رجال نحيفة جداً، حتى أن عظام قفصها الصدري تبدو بارزة، وتمت ترجمة هذا المشهد بأنه إشارة إلى وقوع مجاعة.
ويبدو أن تواتر هذه الأحداث والوقائع هو ما دفع المصري القديم لاتقاء مفاجآت الطبيعة بإنشاء ما يعرف حالياً بـ"الشونة"، وهي كلمة ذات أصول مصرية قديمة، وتعني أماكن تخزين الحبوب والغلال.
ومن بين الحلول الأخرى التي انتهجها المصري القديم هي البحث عن البدائل، وهو ما كشفت عنه دراسة نشرتها "المجلة الأمريكية لدراسات العصور القديمة المتأخرة" في يناير/كانون الثاني من العام الجاري.
وتشير هذه الدراسة إلى أن منطقة الفيوم، على بعد حوالي 130 كيلومترا جنوب غرب القاهرة، كانت سلة خبز الإمبراطورية الرومانية، ولكن في نهاية القرن الثالث الميلادي، تراجع دورها وهجرها سكانها في نهاية المطاف بسبب تغيرات المناخ، التي أدت إلى مشاكل الري في الحقول.
وتشير البيانات المناخية التي كشفت عنها الدراسة، إلى حدوث ضعف في هطول الأمطار الموسمية على منابع النيل في المرتفعات الإثيوبية بشكل مفاجئ، وكانت النتيجة انخفاض منسوب المياه في الصيف، وتم العثور على أدلة تدعم ذلك في الرواسب الجيولوجية من دلتا النيل والفيوم والمرتفعات الإثيوبية، والتي توفر بيانات مناخية طويلة الأجل عن الرياح الموسمية ومستوى مياه النيل.
كما كشفت الدراسة عن محاولات من قبل المزارعين المحليين للتكيف مع الجفاف والتصحر في الأراضي الزراعية عن طريق تغيير ممارساتهم الزراعية، وتشير برديات محفوظة في منطقة الفيوم، إلى كيفية التكيف مع هذا الوضع الصعب في القرن الثالث الميلادي، ومنها ما يشير إلى تحول السكان إلى زراعة الكروم بدلاً من الحبوب أو تربية الأغنام بسبب ندرة المياه، كما أشارت برديات أخرى إلى حدوث نزاعات بين الجيران بسبب اتهامات متبادلة بسرقة المياه ولجوء البعض إلى السلطات الرومانية للإعفاء الضريبي.
وكما أنشأ المصري القديم الآبار وغير ممارساته الزراعية ودشن "الشونة" للتعامل مع مفاجآت التغيرات المناخية، أدرك أيضاً أهمية الاستعداد لها بالكساء والدواء.
ويقول الشماع: "أغلب المشاهد التي تصور المصري القديم يظهر فيها سواء رجل أو امرأة مرتدياً كتان شفاف، وأحياناً ما تظهر المرأة مرتدية ما يشبه الفستان، وكنا نتساءل هل لم يشعروا بالبرد فيرتدون ملابس ثقيلة، إلى أن عثر على منظر في مقبرة بالجنوب يظهر فيها قدماء مصريين يرتدون ملابس ثقيلة".
وتسجل برديات تعرف باسم "بردية إدوين سميث" و"بردية إبيرز" كيف أن المصري القديم عرف أمراض الأنف والأذن والزكام والتي لها علاقة بالطقس والمناخ، ووضع لها بعض الوصفات العلاجية التي من أغربها ما يشبه قطرة الأنف، حيث أوصوا بوضع قطرات من عصير البلح في الأنف، كما توجد وصفة أخرى تتحدث عن الحصول على حليب من سيدة أنجبت ذكرا ويتم خلطة بالصمغ ذو الرائحة النفاذة، واستخدام هذه الخلطة كعلاج.
aXA6IDMuMTM4LjY5LjEwMSA= جزيرة ام اند امز