أنيس الرافعي لـ"العين": القصة فن زاهد يحب العزوف عن مساقط الأضواء
بمناسبة صدور رباعيته "متحف العاهات"؛ "بوابة العين الإخبارية" تلتقي القاص المغربي أنيس الرافعي في حوار حول تجربته الإبداعية .
ارتبط اسم أنيس الرافعي بالقصة القصيرة المعاصرة، بحيث لا يمكن لدارس تاريخ الأدب أن يتجاوز محطته الإبداعية في جنس القصة دون أن يتوقف لديها بحثا وتنقيبا وكشفا، في محاولة لتجلية عوالمه الأدبية التي صارت وسما خاصا به، لا يشبه غيره فيه، ولا يشبهه غيره.. ارتبط اسمه في ذاكرة الأدب المغربي المعاصر بالتجريب والصبر والدأب.. يتنقل فاتحا أبوابًا جديدة أمام السرد العربي ومعبدا لطرق وعرة يتحاشاها السالكون رهبة وخشية، لا يهتم بكثرة الأعمال بقدر ما يهتم بجودتها وإضافتها جديدا لمسيرة جنس القصة، ولعل هذا ما يفسر عزوفه عن الأضواء، إذ يفضل العمل في سكون وهدوء يتيحان له التأمل ومثاقفة ذاته بعيدا عن الصخب والضجيج، يقدح أفكاره على زناد التجريب فتصدر مجموعاته القصصية مغايرة ومختلفة جد الاختلاف.. يخلص نفسه للقصة القصيرة إخلاص ناسك في محرابه، لا يكتب غيرها ولا تغريه بوارق الطمع ولا يتهافت على الجوائز كما حال الكثيرين ممن طرقوا الحياة الأدبية رغبة وطمعا وابتغاء الهبات والمنافع المادية المتحصلة من خلف أسوار الأدب..
" بوابة العين الإخبارية" انتهزت مناسبة إصداره رباعيته الأخيرة "متحف العاهات" عن دار "العين" المصرية، والتقته في حوار ماتع وثري حول تجربته الإبداعية بعامة، ورؤاه الإبداعية وتطلعاته حول جنس القصة القصيرة، ورحلته مع التجريب والواقع الثقافي العربي الراهن...
- متحف العاهات.. آخر أعمال أنيس الرافعي.. عالم مفتوح على عوالم الصوت والسينما والتشكيل والموسيقى والفوتوغرافيا، كل هذه الفنون جنبا إلى جنب السرد.. رحلة تجريبية شاقة وجديدة.. كيف وجدت ذلك؟
- اتبعت هذه الأعمال في هذه الصورة الجديدة، وإيذانا باكتمال هذا المشروع اشتغلت في السنوات الأخيرة على هذه الرباعية القصصية، ليتم افتتاح هذا النسق نصف القصصي الحداثي التجريبي على فنون موازية.. لاحظت أن الاكتفاء بالحكاية يفقر هذا النسق.. كان لزاما في إطار مشروعي الإبداعي أن أنشغل بفنون موازية.. سينما، تشكيل، فوتوغرافيا، موسيقى، وهي فنون لصيقة باهتماماتي المعرفية والوجدانية، وكان لابد لي من استثمارها، لخلق تجربة جديدة في القص العربي، وإليكم تصريحا خاصا.. في كتابي القادم سأطرق مجالا آخر هو مجال الكوسمولوجيا.
- لكن ماذا تقول للبعض ممن اطلع على تجربتك ورأى فيها خروجا على الأعراف الكتابية المستقرة، معتبرا إياها تخريبا للذوق القصصي وخروجا به عن جادة الإبداع الحقيقي؟
- أحترم هذه الآراء كلها لكنني لا أؤمن بها.. في اعتباري الشخصي الكتابة هي معرفة بالقواعد وبعد ذلك محاولة كسرها.. تكرار النماذج السابقة في الأدب العربي لن يضيف جديدا.. لا بد لنا من فتح أراض جديدة للنسق القصصي، لو قارنا الكتابة العربية بما يكتب في الغرب لوجدناها متأخرة كثيرا.. النماذج العليا في القصة الآن فيها تجريب وانفتاح على مجالات لا تخطر على بال القارئ العربي.
- في تجربتكم الإبداعية، يستطيع الناظر أن يلمح تباينا كبيرا.. كل عمل لا يشبه الآخر، كل عمل يحمل بصمته الخاصة وقالبه الفني المغاير شكلا ومضمونا لما سبقه.. قلق ورغبة أبدية في التغيير وسباق محموم نحو اكتشاف عوالم منسية في أزقة العادي والمألوف.. هل يفسر هذا ولع أنيس الرافعي بالتجريب القصصي والخروج على القوالب الفنية الجاهزة والمستقرة.. وكيف ذلك؟
- لدي افتتان خاص بالمطلق القصصي.. لا أكتب على نسق واحد وأنماط واحدة حتى لا تكون كتاباتي نسخ مكررة لبعضها.. الاشتغال بالتجريب يفترض أن يكون للأديب في كل مرة أدوات خاصة ومرجعيات مختلفة وتصورات مغايرة لبناء الحكاية، وأنا منذ كتابي الأول "أشياء تمر دون أن تحدث فعلا" قلت إنني لن أكتب الكتاب الثاني شبيها بهذه الباكورة.. أنا مشغول للنخاع بأن أعثر على أراض جديدة وعن تصورات مغايرة، سأصرح لكم بشيء غريب.. في بداية مساري الأدبي وصمني أحد النقاد أنني عاهة في دماغ القصة المغربية.. لم أنسَ ذلك الأمر.. وجاءتني فكرة الرد بطريقة مختلفة خلال عملي الأخير هذا، حيث تعمدت أن تكون الرباعية بهذا الاسم، لكي أصنع متحفا لكل العاهات السردوية التي قمت بإنشائها خلال هذه السنوات.
- التجريب دائما ما يُجابه بكثير من التحديات عند العقل العربي الذي يعتبره انسياقا وراء التغريب، وشكلا من أشكال العبث الأدبي.. كيف تتعاطى مع هذه التحديات أثناء معالجتك للكتابة التجريبية؟ وهل يمثل هذا عنصر قلق لك أثناء الكتابة؟
- ليس لدي أي قلق سوى قلق المعرفة.. ما خارج النص الأدبي لا يشغلني ولا أكترث بما يقال.. أنا أعرف مشروعي الأدبي جيدا ولا أركز في سواه.. هذه الكلمات والمصطلحات جانب إبستيمولوجي في العقل العربي مثل التغريب والأصالة والمعاصرة والتقليد وغير ذلك.. أعتقد أنها عبارات دخيلة على المجال الأدبي.. المجال الأدبي كبير.. إما أن تكتب كما يكتب كتاب العالم الآن وإما أن تكون الكتابة متأخرة، النص القصصي العربي أو غالبية ما يكتب الآن باستثناءات قليلة ترجمت إلى لغات أخرى هي في الواقع نصوص مضحكة، مثل ما يقرأه التلاميذ في المدارس الثانوية من مقررات تعليمية.. الحكاية وحدها لا تكفي لبناء نصٍّ قصصي.. النص العربي عليه أن يبذل جهودا مضاعفة كي يجد له مكانا في سوق الأدب العالمي.. أتساءل الآن: هل توجد لدينا تقنية عربية تضيف إلى السلم الأنطولوجي؟ هل توجد لدينا أسماء في الإنطولوجيات التي تصدر في نيويورك واليابان وفرنسا؟!
- حسب ما يبدو لنا؛ فإن المتابع للذائقة القرائية لأعمال أنيس الرافعي يلحظ أنها نخبوية إلى حد ما، هل تدشن بكتابتك لقارئ نخبوي أم قارئ شعبوي؟ وأين يقع المتلقي من نظرك أثناء الكتابة؟
أقدر ملاحظتكم الواعية.. صحيح أن ما أكتبه هو نص نخبوي.. أنا لا أنكر ذلك.. الحقيقة أنني لست روائيا يلقي بنصه في البحر المتلاطم للتسويق ليجد قراءً له.. هناك جماعة الأوليبو في فرنسا مثلا.. الأسلوبيون لا يبحثون عن القراء.. ما يتم البحث عنه الاشتغال داخل حيز خاص بكتابة قصة قصيرة مختلفة وتطويرها.. تجربتي تجربة غير تجارية.. تجربة تطمح إلى أن يكون لها عشاق في أماكن مختلفة على قلتها ترضيني..
- الفن بين الذاتية والموضوعية.. ترى أين يقع مشروعك القصصي؟!
- أنا أتحرك من منطلق أن الكتابة وجدان.. ولا يخفى أيضا أن هذه الذات المبدعة تتداعى إلى الخارج لتختص بقضايا معينة.. والقضايا التي تنظرها القصة القصيرة هي قصايا ميكروسكوبية، فلا يصح أن نحشو نصا قصصيا بقضايا أكبر من حجمها.. يزعجني ما هو أيدلوجي.. يزعجني ما هو قومي مبالغ فيه..
القصة القصيرة هي التقاط جزئي ذكي للعالم.. مثلا ما الذي جعل السينما الإيرانية سينما ذائعة الصيت؟
المجتمع يعج بقضايا كبرى استطاع المخرجون بهدوء أن يركزوا على قضايا صغيرة جدا تختزل العالم وتختزل القضايا الكبرى.. ولكن بطريقة سينمائية..
- لغة الكتابة عندكم لقيت تفاعلا كبيرا وإشادة قوية من قبل الناقد.. هل اللغة لديك مقصد في حد ذاتها، أم تتعامل معها باعتبارها تكِئة ووسيلة لا أكثر ولا أقل؟
أنا لا أكتب نصوصا كثيرة.. في السنتين مثلا قد أكتب 4 قصص فقط لا أتجاوزها.. أشتغل عليها مثل الساعتي أو النحات الذي يعافر مع الحجر.. ليس من النزاهة الأدبية الاشتغال على نصوص تجريبية مشتبكة ومعقدة بعجلة ولهوجة وسرعة، ولذلك في اللغة هي أحد المكونات الأساسية التي أركز عليها أثناء الاشتغال.. برأيي لا أعتقد أن من يكتب قصة جيدة وهو لا يتوفر على لغة قوية لا يمكن أن يكون كاتبا جيدا
- من واقع تفاعلك مع الوسط الثقافي الموار بالجديد كل يوم.. هل ترى أن ثمة صراعا قائما بين الأجناس الأدبية؟
الصراع وهمي.. الصراع على ما هو خارج الأدب وليس داخل مملكة الأجناس الأدبية.. هو صراع الجوائز والحظوة.. صراع التنافس للحصول على الريع الثقافي.. وهذه المسألة يستطيع أن يقررها بشكل أفضل نقاد الأدب.. عندنا مدرسة الشكلانيين الروس والمدرسة الفرنسية بقيادة رولان بارت ومدرسة النقد الإنجليزي ومدرسة النقد الثقافي في أمريكا؛ إذا اجتمع كل هؤلاء وأقروا بوجود صراع يمكننا أن نتكلم في هذا.. ولكن الكلام عن وجود صراع هو كلام إعلام وصحافة .. كلام ناس غير متخصصين.. والصراع في حقيقة الأمر هو صراع خارج ساحة الأدب حول المغانم..
- لكن أنت نفسك تتعصب للقصة، وسبق أن سئلت في أكثر من ميدان عن إمكانية كتابة رواية فكان ردك بالنفي القاطع وبإصدار المزيد من المجموعات القصصية.. ألا يعتبر هذا تعصبا لجنس بعينه لا سيما وأن الرواية حسب بعض التعريفات هي قصة قصيرة مطولة، والقصة القصيرة هي رواية مصغرة؟!
- لا ..لا.. دعني أوضح لك.. الأمر بالنسبة لي ليس تعصبا.. يمكنك اعتباره نوعا من الوفاء.. من طبعي أنني لا أحب التقافز الأكروباتي بين الأجناس الأدبية.. بدايتي بكتابة جنس القصة والنمط الحياتي الذي أعيشه ورؤيتي للعالم ولدور الأدب ولحركة المجتمع وطبيعة التاريخ الإنساني.. كل هذا هو ما جعلني أرتاح بداخل هذه الكبسولة الأدبية المجهرية.. أنا أرتاح داخل هذا الجرم الصغير.. صحيح أنني فقدت امتيازات العاشق بسبب هذا الوفاء لكن من يخلصون في هذا الجنس الأدبي هم الزهاد الذين لا يبتغون الذيوع والانتشار بل يبحثون عن الكتابة الجيدة داخل هذا الرواق..
- يعني لم تراودك كتابة الرواية من قبل.. ولن تراودك مستقبلا؟
- لا نهائيا ولا أفكر في كتابة الرواية ولم يدر بخلدي هذا الأمر بتاتا.. - كيف ردكم على من يزعم أن التجربة الإبداعية في المغرب هي تابع لأختها في المشرق، تماما كما حال النقد المغربي في تبعيته للنقد المشرقي؟ هذا كلام غير صحيح.. كلام إكلشيهات تم استهلاكه لفترات طويلة.. وقد حان الأوان للتخلص من هذه الصورة النمطية.. في العالم العربي لا يوجد مصر ولا المغرب.. يوجد فقط أدب عربي... ودورنا أن نسعى بكل الطرق لجعله في مصاف الآداب العالمية.. هذا هو ما ينبغي أن يشغلنا..
- بما أنك أحد رهبان القصة في العالم العربي.. كيف تنظر للجنس الأدبي الوليد "القصة القصيرة الومضة"؟
- القصة الومضة والقصة القصيرة جدا إنجاز طبيعي للتطور الذي حدث في جنس القصة.. لكن في اعتقادي الشخصي أنهما ينبغي أن يكونا في نهاية مسار الكاتب.. أي عندما يحوز الكاتب تقنيات كثيرة جدا في كتابة القصة ويعجز عن كتابة نصوص طويلة بحكم تقدمه في السن فحينذاك ينبغي عليه أن يستثمر هذه التقنيات التي حازها بفضل خبرته في كتابة نصوص قصيرة تختزل تجربته وحكمته.. سأوضح لك الأمر.. مارادونا مثلا يصعب عليه الآن أن يلعب مباراة طويلة بلياقة مثل التي كان عليها في شبابه.. لكنه الآن يستطيع أن يقف في مكانه في الملعب ويقوم بكل الإمكانيات والحركات البهلوانية العجيبة.. يعني مارادونا هو مارادونا.. لذلك فمسار كتاب كثيرين في كتابة القصة مثل .... كتبوا هذه القصة القصيرة جدا أو القصة الومضة في نهاية مسارهم الأدبي.. هناك خطأ.. لا ينبغي أن تستعير تقنيات كتاب آخرين وتكتب بها هذه القصة الومضة.. القصة الومضة يكتبها الكاتب الكبير في نهاية حياته وليس في بدايته.. مثلا مثلا.. هل تتصور أن نيتشه مثلا يبدأ حياته الفلسفية بالشظرة .. الشظرة هي خلاصة خبرة طويلة من التأمل الفلسفي .. كذلك كاتب القصة القصيرة..
- الجوائز الأدبية صنعت نوعا من السيطرة لجنس الرواية على بقية الأجناس، وبالتالي هناك انحسار نوعي للقصة القصيرة.. برأيك.. هل توافق على أن انحسار القصة سببه بالفعل الجوائز الأدبية المرصودة للرواية، أم أن المشكلة تمكن في كتاب القصة القصيرة أنفسهم، أم أن جنس القصة القصيرة أصبح غير ملائم للتعبير عن مشاكل هذا العصر وقضاياه؟
ليس صحيحا أن القصة أصبحت غير ملائمة.. القصة هي الأمثل للتعبير عن مشاكل الواقع العربي الراهنة.. المشكلة برأيي أن الأدب تحول إلى هيليود كبيرة جدا.. هذه الهيليود تمثلها الرواية, والقصة القصيرة هي المساكن الشعبية الموجودة على أطراف الهيليود، لذلك فإذا كان الطموح لكاتب أن ينتقل من هذه المساكن الشعبية للدخول في الهيليود كثيرة فالرواية كذلك .... بالنسبة لي لا توجد جوائز فهي قضية ليست من صميم وجوهر الأدب.. هي قضية مرتبطة بالحياة الأدبية وبأطراف أخرى هي التي صنعت هذه الظواهر.. عندما نتأمل في الأدب ينبغي أن يكون التأمل من داخله لا من خارجه، قد تكون هناك ظواهر صحية خارج الأدب لكن ينبغي ألا تنعكس انعكاسا سلبيا على داخله .
- بعين الناقد التاريخي للأدب كيف ترى مستقبل القصة في ظل طغيان الرواية؟ وبعين العاشق الناسك الراهب المتعبد المحب للقصة القصيرة ماذا تأمل لها؟
- مستقبل القصة في رأيي سيكون مستقبلا مشرقا.. ظهرت مؤخرا بعض الجوائز المهمة مثل جائزة الملتقى للقصة القصيرة أعطت انتعاشة مفيدة لهذا الجنس.. وأظن أنه سيكون هناك مبادرات أخرى مؤسساتية أو مرتبطة بملتقيات ستؤدي إلى تسليط الاهتمام على هذا الجنس.. ليس صحيحا أن جنس القصة في طور الاحتضار أو أنه مكسور الخاطر.. القصة مستمرة منذ آماد طويلة رغم الظروف ورغم المستجدات في كل عصر.. وسوف تستمر.. القصة القصيرة فن زاهد.. لا يهمه أن يكون تحت مساقط الضوء دائما..
aXA6IDMuMTI5LjYzLjI1MiA=
جزيرة ام اند امز