لم تعد وجهات النظر التركية والأمريكية متطابقة حيال الكثير من الأزمات والملفات والمخاطر المحدقة.
حاول المستشار الإعلامي للرئيس التركي فخر الدين التون أن يخفف من حجم التوتر القائم بين تركيا وأمريكا من خلال تغريدة نشرها على صفحته حول مصافحة الرئيسين الأمريكي والتركي في ممر النزول والصعود إلى منصة إلقاء الكلمات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أمس، وتقديم المشهد على أنه قد يسهم في تليين المواقف المتشنجة بين القيادات السياسية في البلدين.
هناك محاولات تبذل باتجاه امتصاص التوتر والتشنجج المتزايد بين أنقرة وواشنطن لكن أكثر من مؤشر يقول إن فرص التهدئة تتراجع خصوصا أن أسباب الخلافات الثنائية والإقليمية تتفاقم وتتشعب
لكن الحقيقة الثابتة حتى الآن وإذا لم تقع مفاجأة آخر لحظة أنه لا يوجد لقاء رسمي تركي أمريكي مرتقب على مستوى القمة، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك، خصوصا بعدما أعلن البيت الأبيض "أنه لا يوجد على جدول أعمال الرئيس ترامب لقاء مرتقب بينه وبين أردوغان لكن إذا جاء طلب من أنقرة بهذا الخصوص فسيتم درسه"، وتبعه على الفور الجواب التركي الذي جاء بنفس الصيغة والعبارة والأسلوب، كما حدث قبل أسابيع عند قرار واشنطن بفرض العقوبات على بعض المسؤولين الأتراك وقابله الرد التركي بالمثل.
حقيقة أخرى تقول إن كلمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو يخاطب المجتمع الدولي من فوق منصة الأمم المتحدة تضمنت الكثير من الأسماء والرسائل والمواقف، لكن الاسم الوحيد الذي اختار ألا يتوقف عنده كان أنقرة هذه المرة بعكس ما كان يفعله في السابق لناحية الإشادة بالمواقف التركية أمام أكثر من محفل إقليمي ودولي، وإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي خاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة مباشرة بعد ترامب صبّ جام غضبه على الإدارة الأمريكية ومواقفها وطريقة تعاملها مع ما تقوله أنقرة ورفض إعطائها ما تريد.
السيوف ستشهر حتما في مسار العلاقات بين البلدين كما أوجز لنا المشهد التركي الأمريكي أمام منصة اجتماعات الدورة الـ73 للجمعية العامة للأمم المتحدة. أردوغان ألمح إلى أنه سيركز في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة على الأزمات الإنسانية واللجوء والمجاعة والفقر لكنه اختار أن يصعد ضد الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها التي لا تأخذ بعين الاعتبار ما تقوله وتريده أنقرة في ملفات ثنائية وإقليمية كثيرة. ترامب مثلا لم يتحدث في كلمته عن القس الأمريكي برانسون المحتجز في تركيا، لكن أردوغان لم يتردد أبدا في إعلانه الاستعداد لتفجير أزمة سياسية دبلوماسية أخرى مع واشنطن وهو يهاجمها بسبب سياستها في توفير الحماية لفتح الله كولن المتهم الأول بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية قبل عامين وتأمين الدعم اللوجستي والعسكري والسياسي لمجموعات "قوات سوريا الديمقراطية" في شرق سوريا.
ترامب اختار مرة أخرى التركيز على إيران وسياساتها الإقليمية ودعمها للإرهاب في المنطقة، وأردوغان ركز بالمقابل على دعم واشنطن لقوات "قسد" والكيان الموازي الذي يحظى بالرعاية الأمريكية -بحسب أردوغان- هي معادلة غريبة عجيبة لن تدوم طويلا.
المواجهة المباشرة لا مفر منها بعد الآن حتى ولو تواصلت جهود التهدئة السياسية والدبلوماسية، والأنباء التي تروج حول تفاهمات تركية أمريكية بعيدا عن الأضواء في موضوع القس الأمريكي برانسون، المعتقل في تركيا، عبر تقديم تنازلات متبادلة تنهي الأزمة مع اقتراب موعد جلسة المحاكمة الجديدة بتاريخ 12 أكتوبر/تشرين الأول المقبل لن يكون لها تأثيرها، فملفات التباعد لا تحصى وحل أزمة القس لن تكفي وحدها، فهناك قرارات أمريكية بتطبيق العقوبات التدريجية على تركيا وهناك مطالب كثيرة لأنقرة لم تأخذ واشنطن بها حتى الآن.
واشنطن كانت تتوقع ربما تصعيدا جديدا من قبل أردوغان لذلك هي تمسكت برفض الدعوة لقمة ثنائية في نيويورك، لكن المسألة بعد الآن ستختلف تماما وتأخذ مسارا جديدا يعقّد الأمور أكثر فأكثر، فالرئيس التركي وجه اتهامات حادة ومن فوق المنصة الأممية لواشنطن وهي حتما ستقول ما عندها للرد على هذا التصعيد من قبل شريك وحليف مفترض.
لم تعد وجهات النظر التركية والأمريكية متطابقة حيال الكثير من الأزمات والملفات والمخاطر المحدقة، والتصعيد الكلامي الحالي سيتحول شئنا أم أبينا إلى مبارزة مباشرة.
هناك محاولات تبذل باتجاه امتصاص التوتر والتشنجج المتزايد بين أنقرة وواشنطن، لكن أكثر من مؤشر يقول إن فرص التهدئة تتراجع خصوصا أن أسباب الخلافات الثنائية والإقليمية تتفاقم وتتشعب. أردوغان يردد منذ فترة أن البعض، وبعدما فشل في استهداف تركيا عبر المحاولة الانقلابية، يحاول اليوم مرة أخرى عبر عملية انقلاب اقتصادي هذه المرة، والرسالة موجهة مباشرة إلى واشنطن قبل غيرها.
"الشراكة النموذجية" التي روّجت لها واشنطن في الأعوام الماضية ارتطمت بحائط "العمق الاستراتيجي" ومعادلة "الرد الاستباقي" التركي التي تدافع عنها حكومة العدالة والتنمية، وحلم العودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل 3 سنوات مثلا بات صعبا دون تبدل جذري غير موجود اليوم في مواقف الطرفين.
لا أحد يعرف مثلا لماذا تجاهلت القيادات السياسية التركية سيناريو الوجود الإيراني في سوريا والعراق وحجم استهدافه المصالح التركية هناك، كما ردد الإعلامي التركي المقرب من حكومة العدالة والتنمية نوزات شيشاك أكثر من مرة "الهدف الإيراني هو ربط الكيانين في شمال العراق وشمال سوريا بعضهما ببعض والوصول إلى البحر المتوسط عبر نقطة ساحلية في شمال غرب سوريا لإضعاف تركيا ومحاصرتها وقطع تواصلها الجغرافي مع العالم العربي". ومع ذلك فالقيادة التركية متمسكة بشراكتها وتنسيقها المتزايد مع إيران في سوريا والعراق.
البيت الأبيض الذي ردد دائما أن الملف الإيراني هو شاغله الأول اليوم لن يتريث كثيرا لتبدل أنقرة من مواقفها حيال طهران وهذا ما قاله ترامب أمام العالم بالأمس.
المعادلة باختصار، اليوم، هي على الشكل التالي.. ترامب يقول "نعمل مع دول الخليج والأردن ومصر لتحالف استراتيجي" والحرب المقبلة هي مع إيران لأن القادة هناك "يزرعون الفوضى والموت والدمار"، ولا أي إشارة لتركيا في هذه الطروحات الاستراتيجية الجديدة، وأردوغان يقول إن فتح الله كولن المتهم الأول بالمحاولة الانقلابية في تركيا يعيش في أمريكا على قطعة أرض مساحتها 400 دونما وأمريكا توفر لمؤسساته التعليمية في 27 ولاية ما لا يقل عن 763 مليون دولار سنويا. وهي كذلك لا تتخلى عن مجموعات "قسد" في شمال سوريا وشرقها.
أولويات متباعدة متناقضة بين حليفي الأمس فكيف ستتقدم الأمور؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة