مصارع الكتّاب برصاص الديكتاتورية والتطرف
الجنازات المتتابعة لمثقفين وكتّاب عرب قتلوا بسبب كتاباتهم ليست حكرا على هذه المنطقة فالقتل كان وسيظل سمة الدعوات المتطرفة في العالم كله
يستطيع الكاتب العربي المثقف والمبدع أن يتجنب مصيره المنتظر بسهولة، أن يكسر قلمه، أو يخنق قصيدته، أو يفرّغ نصه من كل ما من شأنه أن يحرّك المياه الراكدة.
يعيش الكتّاب في المجتمعات القلقة حالة تشبه تلك التي كان عليها سانتياغو نصار (وهو بالمناسبة من أصول عربية) بطل غابرييل غارثيا ماركيز في رواية "وقائع موت معلن"، كان هو ومعه أهل قريته البائسة يعرفون أن الموت سيدركه على أيدي سفّاحين يحثون الخطى نحوه، قنعوا بالمصير الأسود، وراحوا ينتظرونه بصبر وأناة!
كل كاتب عربي يرفع قلمه بوجه الخطأ هو سانتياغو نصّار على نحو ما، لكن هناك من يرتدع، وهناك من يعتبر، وقلّة أو كثرة تنظر إلى الموت كفرصة أخرى للتعبير، على النحو الذي فعله -على سبيل المثال- فيديريكو غارثيا لوركا، شاعر مقهوري إسبانيا وكل المقهورين في العالم، الذي كان يعرف أن فريق الإعدام يلاحقه من بيت إلى بيت، وأنه سيدركه أخيرًا في غرناطة (14 يوليو 1936)، فراح يقارعه بقصيدة الاتهام اللاذعة:
"وعرفت أنني قتلت
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثثٍ
ونزعوا أسنانها الذهبية
ولكنهم لم يجدوني قط"
كان لوركا يعرف مصيره بعد موته، فرفاته ما زالت حتى اليوم محل بحث واختبارات، بعدما اكتشفت بين رفات ثلاثة أشخاص أعدموا في وقت واحد. مثله تماماً سيكون الشاعر اللبناني موسى شعيب، ابن الجنوب، الذي اغتالته في مطالع الحرب الأهلية أياد رفضت مقته للنزعات الطائفية والغرائز المذهبية، فانتظر قاتليه بقصيدته التي كانت قرينة الاتهام:
قتلوني أنا أنشودة حب الفقراء/ قتلوني يا عار بنادقهم.
الشاعر الإسباني، والآخر اللبناني، لم يكونا يتنبآن بمصيرهما، كانا على وجه التحديد يقرآن في السيرة المهنية للقوى الديكتاتورية والظلامية، التي تعرف بالخبرة -وهي محقة- بأن كل كلمة أصيلة توازي كتيبة دبابات، وأن كل قصيدة رائدة تختزن قوة سلاح جوي بأكمله، هكذا كانت "عابرون في كلام عابر" لمحمود درويش، التي أثارت جنون الإسرائيليين فشنوا حملة اتهامات ضد الشاعر بدأت باللاسامية، ولم تقف عند حدود مناصرة الإرهاب، وهم قبل ذلك لم يحتملوا غسان كنفاني، الكاتب والقاص الفلسطيني الشفيف، الذي لم يطالب أبطاله في "رجال في الشمس" بأكثر من أن يدقوا جدران الخزان، وهو معهم كان يدق جدران الاحتلال والاستيطان منذ "عائد إلى حيفا" و"أرض البرتقال الحزين"، فدبروا موته بسيارة ملغومة انفجرت به في بيروت في 8 يوليو 1972.
لوركا الإسباني، وشعيب اللبناني، وكنفاني الفلسطيني، قتلوا بأيدي أعدائهم ذوي المرجعيات الفكرية والسياسية المتباينة كما يفترض، فالديكتاتورية الفرانكوية الإسبانية تفترق من حيث المبدأ والتفاصيل مع قوى ظلامية طائفية أو تكفيرية ذات طابع إسلامي، وهذه لا تتماثل مع قوة احتلال واستيطان كما هي إسرائيل، لكن الأطراف الثلاثة تجتمع على نهج واحد: تمجيد كاتم الصوت أو السيارة الملغومة. لكن حصيلة هذا النهج، ستكون ربحًا خالصًا لكل من يؤمن برفض الآخر سواء كان سلطة ديكتاتورية أو جماعة تكفيرية أو قوة احتلال، فكل آخر عند هؤلاء هو نكرة لا يستحق حرية الرأي والتعبير أو حتى الوجود.
هناك خيط ثخين يجمع كل القاتلين من جهة، وكل المقتولين من جهة أخرى. فلننظر في سيرة هؤلاء الذين دفعوا حيواتهم ثمنًا لمعتقداتهم وآرائهم وكتاباتهم:
- فرج فودة، الكاتب والمفكر المصري العلماني، تعرض خلال سنواته الأخيرة لحملة تكفير علنية، ترافقت مع فتاوى بقتله بسبب كتاباته الجدلية، وبالفعل كمن له شابان ينتميان للجماعة الإسلامية يوم 8 يونيو 1992، وأردياه قتيلاً برشاش حربي أمام ابنه والمارة.
- حسين مروة، الكاتب والمفكر اللبناني اليساري، صاحب الكتاب الموسوعي "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية"، دفع حياته ثمناً لصعود القوى الطائفية المسلحة في لبنان، والتي أرادت خلال صعودها أن تلغي من الخريطة السياسية كل القوى ذات الطابع اليساري أو العلماني. فكان مروة، مع آخرين، وقوداً لهذا الصراع عندما اغتيل في منزله يوم 17 فيراير 1987.
- يوسف السباعي، الكاتب المصري الرومانسي، والذي كان بعيداً عن السياسة بالمفهوم المباشر والشائع، وأعماله تعبر عن هذا الابتعاد مثل: "إني راحلة"، "بين الأطلال"، "نحن لا نزرع الشوك"، "أرض النفاق"، و"السقا مات"، لكنه اغتيل على أيدي فلسطينيين، رأوا أنه لا بد أن يدفع حياته ثمناً لسياسات النظام الذي كان وزيراً للثقافة في حكومته، يوم 18 فبراير 1978 خلال حضوره مؤتمراً آسيويًّا إفريقيًّا في قبرص.
- ناجي العلي، هذا الرسام الكاريكاتوري الفلسطيني اللاذع، كان علامة ثقافية بارزة خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، في إطار الصراع العربي - الإسرائيلي، وفي إطار المخاضات الداخلية التي شهدتها المجتمعات العربية وخصوصاً على الساحة الفلسطينية، كانت رسومات ناجي العلي تمثل صرخات عاليات ضد الاحتلال والاستسلام والفساد، وعندما ضاقت الأرض العربية عن احتمال صرخاته، هاجر إلى لندن حيث كانت بانتظاره رصاصات من كاتم للصوت بتاريخ 22 يوليو 1987 فأصيب إصابات بليغة، وتوفى في 29 أغسطس من العام نفسه.
- طاهر جاعوط، شاعر وروائي وصحفي جزائري، كان مثالاً للمثقف القلق إبان العشرية السوداء التي شهدتها الجزائر، حيث تداخلت خطوط القوى المتصارعة، سواء كانت داخل إطارات السلطة وخصوصاً في الجيش، أو ضمن التشكيلات الميلشيوية الإسلامية، أو بين قوى المجتمع المدني المعارضة للطرفين الأولين. كان طاهر جاعوط وطنيًّا جزائريًّا، معارضاً أصيلاً لهيمنة القوى الدينية، لكنه لم يدرك الفوارق والتداخلات بين القوى المتصارعة، فاغتيل يوم 25 مايو 1993، بعد يوم من نشره مقالاً بعنوان "العائلة التي تتقدم، العائلة التي تتأخر"، فذهبت الاتهامات باغتياله باتجاه كل القوى المتصارعة.
- سمير قصير، صحفي وكاتب وأستاذ جامعي، من أصول فلسطينية مولود في لبنان، كان من الأصوات البارزة إبان احتدام الصراع في لبنان بين جبهتي "14 آذار" و"8 آذار"، بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، وصعود الحملة المعادية لسورية وحلفائها في لبنان. وقد تم اغتياله يوم 2 يونيو 2005 بواسطة قنبلة مزروعة في سيارته.
- جبران تويني، رئيس مجلس إدارة صحيفة النهار اللبنانية، وعضو بمجلس النواب، اشتهر كصحفي معاد للوصاية السورية على لبنان، وكان من أبرز الناشطين في إطار حركة "14 آذار" إلى أن تم اغتياله يوم 12 ديسمبر 2005، بسيارة مفخخة شرق بيروت.
- حنا مقبل، صحفي فلسطيني تولى رئاسة تحرير مجلة "فلسطين الثورة" في بيروت، وكان حريصاً على نشر ثقافة الوحدة الوطنية والديمقراطية والمقاومة. وقد انتخب مقبل عام 1979 أميناً عاماً لاتحاد الصحفيين العرب بصفته ممثلاً لفلسطين؛ وكان أحد مؤسسي "الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين"، وعضوًا في اللجنة الدولية لحماية الصحفيين، المنبثقة عن منظمة الصحفيين العالمية.
اغتيل مقبل في نيقوسيا يوم 3 مايو 1984 في قبرص، بمسدس كاتم للصوت، وتوجهت الاتهامات نحو جهاز الموساد الإسرائيلي.
- طلال الرشيد هو شاعر وكاتب سعودي من مواليد مدينة الموصل بالعراق، وقد اغتيل على أيدي إرهابيين في الجزائر، عندما كان يمارس هواية الصيد، وذلك يوم 28 نوفمبر 2003.
- ناصر سالم المرفدي، شاعر يمني، اغتيل يوم 17 فبراير 2016 في مدينة عدن، في عملية إرهابية تحمل بصمات تنظيم "القاعدة".
تلك الجنازات المتتابعة لمثقفين وكتّاب عرب، قضوا بسبب كتاباتهم، ليست حكراً على هذه المنطقة الفوارة، فالقتل كان وسيظل سمة الدعوات المتطرفة سواء في الشرق أو الغرب، ومثالها عملية الاغتيال التي طالت الكاتب والأكاديمي الهندي م. م. كالبورجي Malleshappa Madivalappa Kalburgi في 30 أغسطس 2015، بسبب معارضته العنيدة لجماعة متطرفة في مقاطعة كارماتاكا الهندية.
لقد نال المتطرفون من رموز الثقافة والإبداع، في العالم العربي، وحاولوا إسكات أصوات كثيرين آخرين، وستظل محاولة اغتيال شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ في أكتوبر 1995 علامة على النظرة الإلغائية التي تتميز بها الجماعات المتطرفة، فالشاب الذي طعن نجيب محفوظ في عنقه، كان أميًّا لم يقرأ عملاً من أعمال الأديب النوبلي، لكنه قرر اغتياله "لأنه كافر خارج عن الملة" بسبب روايته "أولاد حارتنا"، على ما سمع وفهم من شيخه.
ومثل نجيب محفوظ تعرض نصر حامد أبو زيد لحملة تكفير سممت السنوات الأخيرة من حياته بسبب مقترحاته في الفكر الإسلامي، وهو الأمر نفسه الذي تكرر مع الكاتب والمفكر المصري سيد القمني الذي تلقى تهديدات عديدة بالقتل فآثر الصمت لحين.
كان القتل وسيبقى أداة حوار بين المتطرف المسلح والمثقف الأعزل، وهو حوار يفرض شروطه الأقوى. كان الأمر كذلك في الثقافة العربية، منذ أن اغتالت القبيلة المستثارة شاعرها سحيم بن عبد الحسحاس، فجعلت من جسده حطباً تلقم به نار غضبها بسبب قصيدة غزل كتبها لامرأة أحبها.
ومثل سحيم كان مصير شاعر روسيا الأشهر ألكسندر بوشكين، الذي أوقعت به زوجته بسبب علاقة آثمة مع النبيل الفرنسي جورج دانتس، مما جعله يدعوه إلى مبارزة للانتقام لشرفه، ولكنه أصيب إصابة مميتة أودت بحياته بعد 3 أيام فقط.
لقد مات الكتّاب وبقي النص، ومات الشعراء وبقيت القصيدة، كثيرون انتظروا مصائرهم بقوة احتمال وتحدى كما فعل لوركا، وآخرون شرعوا رقابهم للمقصلة على طريقة سانتياغو نصّار.. وهناك من أرادوا أن يكتبوا نهاياتهم وهم يرددون المقولة الشهيرة: "بيدي لا بيد عمرو" على النحو الذي فعله الشاعر اللبناني خليل حاوي، عندما استبق قاتله المفترض برصاصة من بندقية صيد في صدغه.. وكان ذلك عشية الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1981.