بين ميزانية معتمدة وعجز متفاقم.. أزمة سيولة تهدد دور الأمم المتحدة

تواجه الأمم المتحدة، وهي أحد أبرز أعمدة النظام الدولي منذ تأسيسها عام 1945، مأزقاً مالياً يعصف بقدرتها على تنفيذ مهامها المتزايدة.
فرغم إقرار ميزانية سنوية بالمليارات، إلا أن التأخر المزمن في سداد حصص الدول الأعضاء يضع المنظمة أمام أزمة سيولة مستمرة، دفعت الأمانة العامة إلى إجراءات تقشفية غير مسبوقة.
وتعتمد المالية العامة للأمم المتحدة على ثلاثة مصادر رئيسية. الأول هو الميزانية النظامية، التي تغطي النفقات الإدارية والبرامج الأساسية، وبلغت في عام 2025 نحو 3.5 مليار دولار. والثاني هو ميزانية حفظ السلام، المنفصلة عنها، وتموّل بعثات قوات الأمم المتحدة المنتشرة في مناطق النزاع، وقد بلغت للسنة المالية 2024–2025 ما يقارب 5.6 مليار دولار.
أما المصدر الثالث فيأتي من التبرعات الطوعية التي تذهب لوكالات وبرامج متخصصة مثل برنامج الغذاء العالمي، واليونيسف، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين. هذه التبرعات غالباً ما تفوق الميزانية النظامية حجماً، لكنها مشروطة، من قبل المانحين، بأن تُستخدم في مشاريع محددة، ما يجعلها غير متاحة لسد الفجوات التشغيلية أو دعم الأمانة العامة.
معادلة الحصص
وتُوزّع أعباء التمويل بين الدول الأعضاء وفق نظام يسمى مقياس التقييم، تُقره الجمعية العامة كل ثلاث سنوات. هذه المعادلة تستند إلى قوة كل اقتصاد، من الناتج المحلي الإجمالي والدخل الفردي إلى معدلات الدين العام، مع إعفاءات أو تخفيضات للدول النامية والأقل نمواً.
وبحسب آخر مقياس، تتحمل الولايات المتحدة نحو 22% من الميزانية النظامية، فيما تقترب الصين من 20%. اليابان، ألمانيا، والمملكة المتحدة تأتي في المراتب التالية. لكن هذا التركز يجعل الوضع هشاً للغاية: أي تأخر أو امتناع من دولة كبرى يعني فجوة مباشرة بمئات الملايين من الدولارات.
سيولة غائبة
والمفارقة الكبرى أن العجز في الأمم المتحدة لا يرتبط عادةً بنقص الاعتمادات، بل بتأخر التدفقات النقدية. فبحسب تقرير صدر من مكتب الأمم المتحدة بجنيف بتاريخ 30 مايو/أيار الماضي، فإن المبالغ التي دخلت خزينة المنظمة لم تتجاوز 1.8 مليار دولار من أصل 3.5 مليار معتمد وذلك بحلول أبريل/نيسان 2025. أي أن المنظمة تعمل بنصف مواردها تقريباً، في وقت تتزايد فيه المهام من حفظ السلام إلى الاستجابة الإنسانية.
وهذه الفجوة أجبرت الأمانة العامة على تجميد التوظيف وتأجيل مشاريع، والاعتماد على صندوق رأس المال العامل لسد الثغرات المؤقتة. لكن حتى هذا الصندوق يظل محدود القدرة، ما يترك المنظمة تحت ضغط دائم.
تأثير مباشر على العمليات الميدانية
والأزمة المالية ليست مسألة محاسبية فقط، بل تنعكس مباشرة على عمل المنظمة حول العالم. تأخر الأموال يؤدي إلى تأخير دفع عقود المقاولين، إبطاء استجابة بعثات حفظ السلام، وحتى تعطيل بعض الأنشطة التنموية.
ففي أفريقيا على سبيل المثال، تواجه بعثات حفظ السلام في مالي وجنوب السودان صعوبات متزايدة في تأمين التمويل اللازم للعمليات اللوجستية. وفي الشرق الأوسط، تعاني برامج الإغاثة من تأخر وصول المخصصات، ما يهدد بتقليص المساعدات في مناطق نزاع.
إجراءات تقشفية غير مسبوقة
وأمام هذا الواقع، لجأت الأمانة العامة إلى خطوات صارمة بينها استخدام مكثف لصندوق رأس المال العامل، رغم أنه مصمم لتغطية فجوات قصيرة الأمد فقط، وإلغاء أو تجميد وظائف غير أساسية، وهو ما أثار قلق الموظفين في المقر الرئيسي بنيويورك. علاوة على ذلك قررت المنظمة إطلاق قوائم الشرف (Honour Roll) لتسمية الدول التي سددت كامل حصتها، في محاولة للضغط المعنوي على المتخلفين. كما عملت المنظمة على إعادة إعادة ترتيب الأولويات عبر تركيز الموارد على الأنشطة الأكثر إلحاحاً وتأجيل ما يمكن تأجيله.
لكن هذه الإجراءات، بحسب مراقبين، لا تعالج جذور الأزمة، بل تؤجلها.
وأزمة التمويل ليست جديدة. ففي مطلع الألفية، واجهت المنظمة صداماً مع الولايات المتحدة حين فرض الكونغرس سقفاً على مساهمة واشنطن، وهو ما أدى إلى تراكم متأخرات ضخمة. واليوم، يتكرر المشهد بصورة مختلفة: بعض الدول الكبرى، بينها الصين والولايات المتحدة، تتأخر في الدفع لأسباب سياسية أو اقتصادية، فتتحول الميزانية إلى ورقة ضغط غير معلنة.