الحرب العراقية الإيرانية أنعشت إلى حد ما التيار القومي العربي، ليأتي بعدها غزو صدام حسين للكويت وليضرب هذا التيار في الصميم.
رغم كم الحبر الذي سال، وأطنان الورق التي أنفقت للحديث عن الوعي العربي، وتوصيف واقعه وتشريح مدخلاته ومخرجاته وإشكالاته والعوائق التي تقف في طريق تطوره، إلا أنه لا يزال ينزف من كمِّ الثقوب التي فيه.
كل طروحات الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة العرب، وكل ما كُتب عن الوعي والتوصيات التي تمخضت عنها المؤتمرات وورش العمل التي عُقدت للنهوض به وتصويب بوصلته تكاد تكون قد ذهبت سدى، لولا أنها محفوظة في الأرشيفات أو مطبوعة في كتب ومجلدات تزين المكتبات المنزلية أو المكتبات العامة.. أما على صعيد الممارسة، فالنتائج تكاد لاتُرى على الأرض.
الأوطان المتهالكة التي تحوي بشراً يائسين منكسرين مأزومين أمنياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً، ستظل تابعة ذليلة لمشاريع خارجية تزجها حطباً في نيران معارك وحروب طموحاتها ومصالحها.. أوطان ستظل تنزف إلى أن تتلاشى وتموت.
على الصعيد الشخصي، حضرتُ الكثيرَ جداً من هذه المؤتمرات والندوات، وقرأت مقالات وكتب عدة لمتخصصين في هذا المجال، وبالممارسة الواقعية لعملي في الإعلام، كنت دائماً أقف على الحقيقة الصادمة، وهي أنه يلزمنا الكثير والكثير من العمل لإحداث فروقات ملحوظة في هذا المضمار.
قد يقول قائل: ما فائدة الحديث مجدداً في موضوع شائك أُشبع بحثاً وتفصيلاً وتأطيراً وتوصيات؟ والجواب أنه طالما أننا لم نصل للنتيجة المرجوة علينا عدم التوقف، وعدم الملل من تكرار رمي الحجارة في المستنقعات الراكدة لتحريك المياه، وربما الحياة فيها.
الوعي الإنساني هو نتاج تراكمات ومدخلات كثيرة، تبدأ بالأسرة ولاتنتهي بالتعليم والإعلام ودور العبادة. وبنظرة متفحصة على واقعنا العربي نستطيع تلمس الكم الهائل من المؤثرات التي كوّنت ونمّطت وعي إنسان هذه المنطقة، قبل أن تؤثر فيه وتسحبه الى مواقع مُعدّة له سلفاً وتسخيره لأداء وظيفة عند غيره.
في العموم، أُبتليت المنطقة العربية بثلاثة تيارات فكرية لعبت دوراً بارزاً في توجيه الوعي العربي، قبل انفجار الثورة الرقمية التي هي الأخرى أثّرت بدورها في الكثير من مضامينه وتوجهاته.
التيار الأول كان التيار الاسلامي الذي تأسس على يد حسن البنا في مصر، وراح ينتشر في بقية البقاع العربية، ولأنه قائم على فكرة الإيمان والعودة الى دروب السلف الصالح، واسترجاع أمجاد المسلمين يوم وصلت إمبراطوريتهم الى مضارب أوروبا وافريقيا وعمّت الجزء الأكبر من آسيا. وقد لاقى هذا التيار قبولاً كبيراً من عموم الناس، نظراً لكونه قادراً على إخراج إنسان المنطقة من كبواته وإنكساراته.
التيار الثاني، هو التيار القومي العربي، والذي كان أول بنة في بناء وعي جديد أسهم لاحقاً في التخلص من الدولة العثمانية بكل إرثها الذي أثقل كاهل أهل المنطقة. وكانت أول صرخة في إنبعاث هذا التيار، عبارة: "نحن عرب قبل أي صبغة سياسية". عبارة أوقدت الشعلة نحو طريق الإنعتاق من عبودية آل عثمان لما يزيد عن أربعة قرون بإسم الاسلام.
التيار الثالث هو التيار الأممي الماركسي، الذي بشّر به الاتحاد السوفيتي، وراح ينتشر عبر الأحزاب الشيوعية، واستطاع هذا التيار التمدد والاستحواذ على مساحة لابأس بها، بخاصة أنه قام على مبدأ إقتصادي يراعي العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات بالتساوي بين الناس، ومبدأ إنساني يجرم التمييز العرقي أو الجنسي بين الناس.. وقد سُخرت الآداب والفنون والسياسة وأساليب التبشير الحديثة لنشر هذا الفكر، وحضر بقوة في المنطقة العربية رغم ما تعرّض أتباعه للمنع والملاحقة، معتمداً على الاتحاد السوفييتي، القوى العظمى الثانية في العالم، كمركز وبوصلة له.
هذه التيارات الثلاثة الرئيسة، جمع بينها رابط واحد، وهو أنها جميعها ضربت بقسوة فكرة الوطنية، التي أصبحت واقعاً غير قابل للتغيير بعد اتفاقية سايكس بيكو، وبالتالي كانت تطلعات هذه التيارات، إما إعادة بناء الخلافة الإسلامية، أو ضرب سايكس بيكو وضرب مفاعيلها على الأرض وإعادة توحيد الوطن العربي سياسياً، أو التحليق في الفضاء الأممي على جناحي الماركسية.
طبعاً، في مقابل هذه التيارات الثلاثة، كان حضور الولايات المتحدة قد بدأ يتبلور ويسجل صعوداً مؤثراً، بدأ من فكرة "الحلم الامريكي".. ونقل إسرائيل، التي باتت جزءاً لايتجزأ من تركيبة المنطقة بحكم القوة الدولية والأمر الواقع، كل ثقلها اليها، فارتفت شعارات ملأت فضاءات الدول العربية، بأن لاصوت يعلو فوق صوت الأمة.. وإن بقيت هذه الأصوات غير متجانسة بين ما هو اسلامي أو عروبي أو أممي. صحيح أن هذه التيارات في بعض المحطات التاريخية تحالفت لضرورات المصلحة الحزبية، ولكن الصحيح ايضاً أنها بقيت في الخفاء تكيد لبعضها البعض وتضرب ببعضها البعض.
استمر الوضع على ما هو عليه، حتى حقبة ثمانينات القرن الماضي، وبالتحديد ولادة الجمهورية الاسلامية في ايران، وقيامها على مبدأ تصدير الثورة، وهنا أيضاً إنقسم الوعي العربي القائم على أساس ديني الى قسمين (شيعي وسني)، وسجل الواقع مزيداً من تشتت الوعي العربي وفتح ثغرات جديدة في جداره اللين أصلاً.
الحرب العراقية الايرانية، أنعشت الى حد ما التيار القومي العربي، ليأتي بعدها غزو صدام حسين للكويت وليضرب هذا التيار في الصميم، ويشكك به وبمصداقية حاملي رايته. وعاد الوعي العربي من جديد الى حالة من التخبط والتأزم، زاد منهما انفجار الفضاء العربي بعشرات، بل مئات، القنوات الفضائية، التي اسهمت بدورها في تكريس هذا الواقع، لأن لكل واحدة منها أجندة معينة.
جاء بعد ذلك الربيع العربي، الذي كان في مجمله حركات مطلبية شعبية ضد الفساد والقمع وخنق الحريات وتعطشاً شعبياً للحكم الرشيد، الذي تكرّس بعد إنفجار الثورة الرقمية وارتباط العالم من أقصاه الى أقصاه بالشبكة العنكبوتية.. ربيعٌ تحوّل بدوره الى كابوس وطني بعد أن ركبه الإخوان المسلمون متحالفين مع تيار العثمنة الجديدة أو "النيو-خلافة" الذي يقوده نظام حزب العدالة والتنمية في تركيا.
وبنظرة بانورامية على واقعنا العربي اليوم، يدمي القلوب خروج ممثلي المشروع الفارسي ليقولوا بأن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية.. فيما رأس حربة مشروع إحياء العثمنة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يتحدث نيابة عن ملايين العرب في بلدانهم، ويقرر مصيرهم.. أما النخب الثقافية والفكرية العربية، فللأسف جلّها منقسم بين هذا المشروع أوذاك، حتى من كان في يوم من الأيام يسارياً وماركسياً أو قومياً، أصبح اليوم "تروساً" في ماكينة الفرس أو الأتراك.. ولا عزاء أو صوت للأوطان التي تئن وتشتغيث.
إزاء هذا الوضع الكارثي للوعي العربي، يجب العودة الى المربع الأول، وبث الدماء بكل قوة في عروق الفكر الوطني الذي غاب طويلاً، وجرّ غيابه على الكثير من دول المنطقة وشعوبها الإنكسارات تلو الإنكسارات.
يجب أن يُزرع في الوعي العربي ويُغذى مفهوم الوطنية بكل تجلياته الحضارية والانسانية، والتأكيد على أن الوطن المعافى والقوي إقتصادياً والمتماسك إنسانياً، سيؤثر سياسياً وإقليمياً ودولياً، وسيكون قادراً على تبني مشاريع أكبر وأوسع تخدم الإنسانية جمعاء.. أما الأوطان المتهالكة التي تحوي بشراً يائسين منكسرين مأزومين أمنياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً، ستظل تابعة ذليلة لمشاريع خارجية تزجها حطباً في نيران معارك وحروب طموحاتها ومصالحها.. أوطان ستظل تنزف الى أن تتلاشى وتموت.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة