هناك جهداً عربياً متراكماً في مجالي التنسيق الاستراتيجي والعسكري،
تكشف فعاليات ونتائج القمة العربية في الظهران عن إدراك عربي عام بضرورة إحياء مؤسسات العمل العربي المشترك، والانطلاق لتحقيق نقلة نوعية في إطار مواجهة التحديات والمخاطر التي تواجه الأمن القومي العربي على كل المستويات.
وربما ما أكده الملك سلمان بن عبدالعزيز في مبادرته لتعزيز الأمن القومي العربي لمواجهة التحديات المشتركة حافز حقيقي للتعامل مع الأمن القومي العربي باعتباره منظومة متكاملة لا تقبل التجزئة، والعمل على تطوير جامعة الدول العربية ومنظومتها بداية حقيقية لبناء تفاهمات عربية جديدة في مجال مواجهة الأزمات العربية الراهنة، وهو ما أكده أيضاً القادة العرب المشاركون، خاصةً الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي طالب باستراتيجية للأمن القومي العربي لمواجهة التحديات غير المسبوقة للنظام الإقليمي العربي على مختلف الدرجات.
السعودية والإمارات ومصر يمكن أن تؤدي دوراً قيادياً في تنفيذ فكرة بناء قوة عربية حقيقية على أسس استراتيجية متماسكة، خاصةً أن هذه الدول منوط بها وتقع عليها مسؤولية بناء نظام إقليمي جديد يختلف تماماً عن النظام الإقليمي الذي ثبت أنه تهالك بالفعل ويحتاج إلى إعادة بناء كاملة.
مطالبة القيادات العربية بالتركيز على المخاطر التي تواجه الأمن القومي العربي تدفعنا إلى إعادة طرح وتداول فكرة إنشاء القوة العربية المشتركة مرة أخرى، خاصةً بعد صدور البيان الختامي للقمة، وما تضمنه من نقاط وبنود إيجابية، وهو ما يدعونا مجدداً إلى مناقشة الأبعاد والمتطلبات الملحة والعاجلة لإنشاء هذه القوة العربية في الوقت الراهن، لمواجهة التدخلات الإقليمية، والتحديات من منظور عربي مباشر، وتهميش الحضور الإقليمي والدولي للأطراف الخارجية.
بداية تشير خلاصة الخبرات السابقة للمنطقة العربية إلى أنه لم يسبق تشكيل قوة عربية مشتركة من قبل، إذ انطوت غالبية التجارب العربية السابقة، إما على نمط التحالفات الجزئية في حالات بعينها لم تستطع الاستمرار، وعلى سبيل المثال تم تشكيل قيادة عربية مشتركة في عام 1964، عندما طالب الرئيس جمال عبدالناصر بتفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك التي وقعت عام 1950، حيث كان هناك تهديد واضح للأمن القومي العربي، غير أن هذه التجربة لم تكتمل بسبب الخلافات بين الدول العربية، حيث رفض كل من الأردن ولبنان نشر قواتهما على أراضيهما، وقد انتهى الأمر بتشكيل قيادة مشتركة دون وجود تدريب مشترك أو تكوين قوات مشتركة.
وقد شهدت حرب أكتوبر عام 1973 تعاوناً عسكرياً عربياً، عندما حاربت كل من مصر وسوريا العدو الإسرائيلي، حيث اجتمعت الدول العربية واتفقت على مساندتهما، وتم تحديد مساهمات من كل دولة عربية في الحرب بشكل غير تقليدي، ومثّلت تلك المحاولة تنسيقاً عسكرياً لمواجهة الخطر الإسرائيلي الذي يهدد الأمن القومي العربي، كما تم إرسال قوات عربية للمشاركة في تحرير الكويت إبان الغزو العراقي في عام 1990، إلا أن تلك القوات كانت تحت مظلة دولية بقيادة الولايات المتحدة، ورغم ذلك فرضت الظروف الميدانية قيادة مصر قوات كل من سوريا والمغرب خلال العمليات الميدانية.
كما طرح إعلان دمشق 6 مارس 1991 صيغة تنسيق عسكري (6+2) من خلال مشاركة قوات مصرية وسورية والدول الخليجية الست، بهدف الحفاظ على أمن الخليج العربي، غير أن الضغوطات الإيرانية والأمريكية، بخلاف الحساسيات العربية أفشلت الإعلان، إذ أعلنت دول الخليج العربي في حينها في يونيو/ حزيران 1991 أنها قادرة على تأمين نفسها، وستطلب من الدول العربية مساعدتها حال حاجتها إلى ذلك، هذا بالإضافة إلى التجربة العسكرية الخليجية الناجحة والمعروفة باسم "درع الجزيرة"، وهي مكونة من قوات عسكرية من دول مجلس التعاون الخليجي.
ولعل المناورات العسكرية الخليجية الدولية التي جرت مؤخراً في الخليج العربي مثال حي، يمكن الإشارة إليه والانطلاق منه نحو تحقيق فكرة القوة العربية المشتركة خاصة، حيث تمت مؤخراً فعالياتها الاستراتيجية في المنطقة الشرقية في السعودية، التي حملت اسم "درع الخليج 1"، وشاركت فيها قوات عسكرية من 23 دولة، بما فيها السعودية، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وباكستان، وهي أضخم مناورات عسكرية عربية دولية جرت مؤخراً في المنطقة على الإطلاق، سواء من حيث عدد القوات أو من حيث الدول المشاركة، ومن ناحية تنوع خبراتها ونوعية أسلحتها، واستهدفت رفع الجاهزية العسكرية للدول المشاركة، وقد سبقتها مباشرة المناورات التي تمت بين مصر ودولة الإمارات العربية الشقيقة، وهو ما يشير إلى وجود معطيات حقيقية وعملية يمكن البناء عليها، والانطلاق منها نحو إحياء فكرة القوة العربية المشتركة، وهذه المناورات التي حملت اسم "خليفة 3" شملت تنفيذ العديد من الأنشطة التدريبية الرئيسية، بغرض حماية خطوط المواصلات البحرية وإدارة أعمال القتال المختلفة، وتنفيذ حق الزيارة والتفتيش للسفن المشتبه بها، إضافة إلى تدريب أطقم الوحدات البحرية المشاركة على مواجهة التهديدات البحرية المحتملة.
والرسالة أن هناك جهداً عربياً متراكماً في مجالي التنسيق الاستراتيجي والعسكري، وهو ما يمكن البناء عليه، والتعجيل بإعادة فتح هذا الملف الخاص بإنشاء القوة العربية المشتركة في الوقت الراهن، خاصة مع التسليم بوجود بعض المعوقات والإشكاليات الخاصة بإنشاء هذه القوة العربية، ودورها ومهامها ومسرح عملياتها، ومنها غياب التوافق السياسي الكامل بين الحكومات العربية، لا سيما مع اختلاف رؤية كل دولة عربية إلى مصادر التهديد الراهن والمحتمل التي تتعرض لها، ووجود ضغوطات القوى الإقليمية غير العربية (إيران، وإسرائيل، وتركيا)، لمنع تشكيل قوة عربية مشتركة، التي يمثل إنشاؤها تفعيلاً لمعاهدة الدفاع العربي المشترك، وميثاق جامعة الدول العربية، خاصةً المادة "9" التي تعد آلية تنفيذ مناسبة لتطبيق الفكرة لمن يرغب من الدول، كما أنه من الطبيعي أن تسعى الجامعة العربية لتطوير التعاون الأمني والعسكري بين دولها، استنادا إلى المادة رقم "9" من ميثاق جامعة الدول العربية، التي تنص على أنه لدول الجامعة العربية الراغبة فيما بينها في تعاون أوثق وروابط أقوى مما نص عليه هذا الميثاق، أن تعقد بينها من الاتفاقات ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض والمعاهدات والاتفاقات التي سبق أن عقدتها أو التي تعقدها فيما بعد دولة من دول الجامعة مع أي دولة أخرى، لا تلزم ولا تقيد الأعضاء الآخرين.
يبقى التأكيد على إمكانية البدء في تشكيل القوة العربية المشتركة من كل من السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر كبداية قوية على أن تنضم باقي الدول الأخرى تباعاً ووفقاً لما يمكن الاتفاق بشأنه لاحقاً، خاصة أن البروتوكول الحاكم لإنشاء هذه القوة يمكن أن يحدد المتطلبات الملحة والمباشرة لنظام الالتحاق، ووفقاً لأسس ومتطلبات سياسية واستراتيجية متوافق بشأنها في المدى المنظور.
إن النظام الإقليمي العربي يواجه أزمة حقيقية تتجاوز الاستمرار في إدارة المشهد الحالي بكل معطياته وتحدياته والانتقال من مرحلة الرصد والتحذير من خطورة الاستمرار في المشهد الراهن إلى التعامل سريعاً لمواجهة التحديات التي تواجه بنية النظام الإقليمي بكل أسسه وأركانه، وفي التصور أن الدول الكبرى في الإقليم مثل السعودية ودولة الإمارات ومصر يمكن أن تؤدي دوراً قيادياً في تنفيذ فكرة بناء قوة عربية حقيقية على أسس استراتيجية متماسكة، خاصة أن هذه الدول منوط بها وتقع عليها مسؤولية بناء نظام إقليمي جديد يختلف تماماً عن النظام الإقليمي الذي ثبت أنه تهالك بالفعل ويحتاج إلى إعادة بناء كاملة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة