فاجأت الجماهير العربية إيران وساستها بأن السكوت عن التصرفات التوسعية لطهران لا يعني القبول بمشروعها القائم على سياسة "فرق تسد"
لطالما تفاخرت إيران في سعيها بتصدير الثورة الخمينية بسيطرتها الشعبية والسياسية على العواصم العربية، ولا سيما بغداد وبيروت وصنعاء ودمشق مؤخراً، حتى باتت ساحات هذه المدن العربية مرتعا لقاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، يتنقل فيها حيثما يريد وبلا سابق إنذار، منفذا أجندة طهران في المنطقة، التي ورغم تغلغلها فيها عبر نشر الطائفية ودعم المليشيات المتطرفة، إلا أن الشباب العربي رفض استمرار إيران بغيها، لذا علت الصيحات والهتافات ضدها.
في الواقع يمكن استخلاص أن النفوذ الإيراني بات في مرحلة التقهقر والتقويض شيئاً فشيئاً، حتى الانهيار على المستويات الشعبية والوطنية، بل حتى على مستوى السياسة الدولية؛ لأنه لم يقدم يوماً من الأيام سوى الفوضى والدمار وتحويل مناطق نفوذه لبؤر قائمة على الحرب والدم
نعم.. فاجأت الجماهير العربية إيران وساستها بأن السكوت عن التصرفات التوسعية لطهران لا يعني القبول بمشروعها القائم على سياسة "فرق تسد"، لذلك يمكن استعراض ما كان يعتقده المسؤولون الإيرانيون ساحات نفوذ لهم على النحو التالي:
العراق أولا: ظلت بغداد لأكثر من عقد من الزمن تحت النفوذ الإيراني، الذي ربط بغداد بطهران بفكر ديني، لتمرر سياساتها التوسعية ومصادرة القرار السياسي في العراق، حتى بات في لحظة من اللحظات حديقة خلفية لإيران، بعد أن ربطت رجال السياسة العراقيين بها بتعويمهم على الساحة، من خلال استغلال الفراغ المؤسساتي الذي أصاب العراق بعد الاحتلال الأمريكي، فغدت بلاد الرافدين بقبضة إيران، وكأنها جزء لا يتجزأ من تشكيلاتها الإدارية؛ إذ لم يبقَ شيء للعراقيين، بل إن حتى المحافظين ورؤساء البلديات المحلية صاروا يولون برضى من الاستخبارات الإيرانية، مستغلة المشاعر الدينية التي استخدمتها ببشاعة وشناعة لم تعد تخفى على أحد، فجاء الموج الهادر من حيث ظنت إيران أنه ثقلها الشعبي، وتحديدا محافظات جنوب العراق، الذين ضاق أبناؤها ذرعاً بالسياسات المجحفة وتجّار الدين الموالين لإيران، الذين غمسوا لقمتهم بالدم بحجة الطائفة، فنهضوا مدركين بأن الدين لم يتعارض يوماً مع حريتهم واستقلالهم أو عروبتهم أو هويتهم العراقية، بل إن الدين بمختلف مذاهبه يدعو للحرية والكرامة والتسامح والتآخي والعزة، فبات النفوذ الإيراني وجها لوجه أمام العراقيين الرافضين التبعية.
لبنان ثانياً: شهد منذ ما يقارب الشهرين حراكاً شعبياً يمكن وصفه بالتاريخي، لتميزه بالشعارات اللبنانية المستقلة، بعيداً عن التحزبات السياسية أو المسميات الطائفية، وعلى مستوى لبنان ككل؛ إذ لم يقتصر على منطقة محددة أو تيار سياسي منفرد، ولكن على المستوى التحليلي الدقيق نجد أن أغلب التيارات السياسية في لبنان أيدت هذا الحراك ومطالب المتظاهرين باستثناء حزب الله "وزعيمه حسن نصر الله"، الذي بادر الحراك الشعبي بكلمة تحمل من التهديد والوعيد ما لا يخفى على أحد، حتى أنه هو ذاته شعر بذلك مما دفعه للاستدراك والقول في خطابه إنه لا يهدد أحداً، كما حذر من استقالة الحكومة، وإنه وحزبه لن يسمحوا لأحد بالاستقالة، على عكس الآخرين من قادة التيارات السياسية اللبنانية الذين لم يشعروا بضيق أو حنق باستقالة الحكومة، ليعلن رئيسها "سعد الحريري" ذلك تلبية لمطالب الشارع اللبناني، الذي كان صفاً واحداً وبكلمة واحدة "كلن يعني كلن"، نادى بهذا الشعار بكل طوائفه الدينية والسياسية.
سوريا ثالثاً: الأوضاع في دمشق تختلف عنها في بغداد وبيروت؛ إذ إن القضية السورية اليوم باتت منقسمة على طاولات السياسة الدولية وانشغال الشعب السوري بلملمة جراحه والتقاط ما بقي له من أنفاس، ليعيش بها وإعمار ما أمكنه من بلد نهشته آلة الحرب، حتى عادت به إلى عقود من التقهقر، ولكن إيران لم تستثنِ الساحة السورية، بل إنها استغلت استعارها لتتغلغل بها، فجاءها المد الإيراني كالطوفان، وما هي إلا سنوات قليلة حتى باتت مساحات واسعة من سوريا تحت قبضة الحرس الثوري الإيراني والمليشيات التابعة له، وهذا ما أزعج روسيا التي رأت خطراً وتهديداً للاستقرار، لا سيما أن هذا النفوذ بعيد عن طبيعة الشعب السوري وهويته الاجتماعية وأيديولوجيته العَقدية، فبدأت الصراعات وتقليم أظافر طهران في سوريا على يد الروس، وفق تفاهمات دولية علنية وغير علنية، فبدأت موسكو بسحب البساط من تحت المرشد في دمشق، سواء على مستوى ارتباط التشكيلات العسكرية الحكومية بإيران أو على مستوى تقليص مواقع النفوذ بانسحاب الإيرانيين لصالح الروس والشرطة العسكرية الروسية، كما حدث في حلب وغوطة دمشق، أو حتى بتغاضي روسيا عن قصف إسرائيل المصالح الإيرانية على الأراضي السورية.
اليمن رابعا: لا شكّ أن صنعاء التي سيطر عليها الحوثيون بانقلابهم على الشرعية لن تتأخر كثيرا عن شقيقاتها العربيات برفض نفوذ إيران ولعبها بمستقبل الشباب العربي وزجه بحروب لا طائل منها سوى الخراب ومزيد من التدمير، لذلك باتت اليمنيون مدركين لعظيم ما يحضر لهم، فسارعوا للمصالحة فيما بينهم، وتجسد ذلك بلقاء الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، والاتفاق على خطة عمل تقود اليمن نحو الاستقرار والاستقلالية عن كل المشاريع الخارجية وتخليصه من قبضة الحوثيين الموالين لإيران أكثر من ولائهم لوطنهم.
في الواقع يمكن استخلاص أن النفوذ الإيراني بات في مرحلة التقهقر والتقويض شيئاً فشيئاً، حتى الانهيار على المستويات الشعبية والوطنية، بل حتى على مستوى السياسة الدولية؛ لأنه لم يقدم يوماً من الأيام سوى الفوضى والدمار وتحويل مناطق نفوذه لبؤر قائمة على الحرب والدم واستغلال مقدرات الشعوب وبلدانها لتمويل مخططاتها الدموية، حارمة تلك الشعوب من أية فرصة لتنفس السلام والأمان والالتفات لبناء أوطانها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة