يواجَه النظام الإقليمي العربي الراهن بسلسلة اختبارات صعبة ومستجدة.
هذه الاختبارات نتيجة توقف مسارات العمل العربي-العربي، وعدم انعقاد القمة العربية، التي كانت تُعقد دوريا لتذكّر ببقاء النظام الإقليمي على قيد الحياة. فإذا بهذه القمة تؤجل تباعا، وبصورة تدعو للرثاء، خاصة أن الجامعة العربية تركت الملفات العربية وطرق معالجتها، وذهبت لتقوم بجولة استكشافية لطرفي النزاع الروسي-الأوكراني، وهو الأمر الذي يثير علامات استفهام حقيقية حول البديل المطروح في إطار نظام شرق أوسطي أشمل وأوسع، يلبي متطلبات محددة لدول الإقليم، بما في ذلك الدول العربية وإسرائيل، إضافة إلى دول الجوار الإقليمي -إن تمت تسوية الأزمات العربية الإقليمية- وتم تحديد مقاربة التعامل العربي الإقليمي، انطلاقا من منظور الفوائد المتبادلة، والمصالح المشتركة، التي بدأت تحكم نطاقات الإقليم حاليا، وفي مناخ عربي يتشكل بالتعاون مع إسرائيل لإحلال السلام والاستقرار في إقليم الشرق الأوسط -والتي يمثل العالم العربي القلب منه- خاصة أن إسرائيل تعمل في إطار من الحسابات السياسية والاستراتيجية المحددة، والتي بدأت تتشكل في قمة النقب، ومن المحتمل أن يمتد هذا الإطار إلى مسارات مختلفة.
ويواجَه النظام الإقليمي العربي، ليس بتحديات عابرة، بل بسلسلة تحديات لا يمكن حلها بسهولة، وستحتاج إلى جهود كبيرة في ظل حالة السيولة السياسية العامة، التي تمس دول النظام العربي وإشكالياته، إضافة إلى ضعف مؤسسات العمل العربي المشترك، بما في ذلك مؤسسة الجامعة العربية، الأمر الذي سيصعُب معه التحرك في نطاق الترميم والإصلاح، ولو على مراحل، في ظل ما يجري إقليميا، خاصة مع مد النظام الشرق أوسطي، ليس كنظام إقليمي فقط، بل كنظام يمكن أن يُفعَّل ويكون بديلا حتى لو استمر النظام الإقليمي الأصلي.
إن الحرب الأوكرانية-الروسية ستؤدي إلى ارتدادات حقيقية على اتجاهات العمل في مناطق عدة، بما في ذلك الشرق الأوسط، وهو ما يضع الدول العربية في مأزق التعامل، إذ لا يكفي إحداث توازن في أنماط العلاقات الراهنة مع الدول الكبرى، وإنما تبنّي استراتيجية استباقية حقيقية تقلل من الارتدادات السلبية، وتعظم من العوائد السياسية والاستراتيجية، التي يتعامل معها العالم العربي بدوله الرئيسة، حتى داخل الدول التي ما تزال تشهد حالة عدم استقرار.
النظام الشرق أوسطي نظام مقترح منذ سنوات طويلة، ومنذ بدء المفاوضات العربية-الإسرائيلية في مطلع التسعينيات، والذي أرّخ له الرئيس الإسرائيلي الأسبق شيمون بيريز بكتابه الشهير "الشرق الأوسط الكبير"، ومن ثم فإن النظام الشرق أوسطي المقترح سيرتكز على أسس مختلفة:
أن تكوين تحالف الشرق الأوسط سيعمل على إدماج إسرائيل في جغرافيا المنطقة، ومثلما كانت هناك محاولة إسرائيلية ناجحة في إلحاق إسرائيل بجغرافيا البحر المتوسط، كما فعلت فرنسا ذلك في إنشائها "الاتحاد من أجل المتوسط"، فإن المحاولة الأمريكية لإقامة تحالف الشرق الأوسط لمواجهة إيران والإرهاب، ستعمل بحكم إلحاق إسرائيل بهذا التحالف، على إدماج الترتيبات العسكرية والأمنية مع دول عربية دون ربط مع التسوية، ولا يمكن افتراض أن هذا التحالف سيكون بعيداً عن التطبيقات الاستراتيجية لحلف شمال الأطلنطي.
ومن المرجح أن يكون إدراج إسرائيل أحد الأهداف لإقناع الدول العربية بتنحية الخلافات جانباً، وبدء العمل في التعاون الأمني الإقليمي، ويمكن لهذه الخطوة أن تسهّل التعاون العسكري في المسائل الإقليمية، ما يعني أنه ستكون هناك إعادة تموضع للقوات الإسرائيلية في المنطقة، وهذه الخطوة ستكون بمثابة رسالة لإيران، مفادها أن هناك قوة ردع كبيرة، من خلال التنسيق العسكري بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وكذلك تمكين جيوش الشرق الأوسط لتصبح قابلة للعمل المتبادل مع الولايات المتحدة، وكذلك مع بعضها وفقاً لاستراتيجية العمل المتبادل تلك، والتي تتطلب التوافق ضمن القيادة نفسها.
إن أحد أركان أي نظام إقليمي هو إدراك أعضائه وجود مصادر تهديد مشتركة، ما يدفعها إلى التعاون الأمني فيما بينها وبناء نظام أمني يقوم على مبدأ الدفاع المشترك.
وفي هذا المجال، أخفقت الدول أعضاء النظام العربي إخفاقًا لافتا، مع أنها وقعت في مطلع الخمسينيات اتفاقية التعاون الاقتصادي والدفاع المشترك، إلا أنها فشلت في تحويل ذلك إلى واقع ملموس بسبب الاختلافات فيما بينها.
ليس هذا فحسب، بل إن القضية الفلسطينية، التي اعتبرت لفترة طويلة قضية العرب الأولى تراجع شأنها في العقد الأخير لصالح هدف مكافحة الإرهاب وأولويات أخرى.
وأًيا كان الأمر، فإن المطلوب هو إقامة نسق تفاعلات يقوم على احترام الحقوق الوطنية المشروعة والمنافع المتبادلة، وإشاعة مناخ التسامح ورفض التطرف، وعدم الانخراط في مباريات صفرية، والتي يمكن أن تشمل الجميع، في ظل عدم وجود قواسم مشتركة حقيقية تجمع النظام الإقليمي العربي ودوله، نتيجة لما آلت إليه الأوضاع في غالبية الدول العربية من حالة عدم استقرار، وحدوث اختراقات خارجية، إضافة إلى حالة الداخل المتردي أمنيا وسياسيا، كما لا تزال دول مثل العراق وسوريا تعاني وجود تهديدات.
كل هذا لا يدفع لبناء توافقات أو الاستمرار في نظام تهالك ويحتاج إلى ترميم أو استبدال.
في المجمل، فإن البيئة الأمنية والاستراتيجية الجديدة ستُعيد النظر في مقومات ومهام وركائز عمل المؤسسات العربية-العربية الراهنة، خاصة أن حجم التحالفات الجديدة والمتوقعة سيغير أنماط التعاملات العربية والعربية-الإقليمية، ما سيتطلب إعادة ترتيب الحسابات كل على حدة، وليس في إطار العمل الجماعي، وفقا لنظرية النفقة والتكلفة والعائد، وحسابات المكسب والخسارة، التي سيتعامل بها النظام الإقليمي الجديد في بيئته الاستراتيجية الجديدة، حيث إن هناك عددا من الحوافز، التي يمكن استثمارها، وستطرحها إسرائيل في الفترة المقبلة، وفقا للبيئة الأمنية المستجدة، ومن أهم هذه الحوافز إقامة تدريبات مشتركة وتدريبات قتالية لمواجهة الخطر الإيراني، وكذلك تنمية القدرات القتالية العربية، وتوظيف قدرات إسرائيل في التقنيات الإلكترونية، وبرمجيات وتطبيقات الكومبيوتر والأقمار الاصطناعية وطائرات المراقبة والتجسّس المسيّرة.
إضافة إلى تقارب التوجهات الإسرائيلية-العربية، فيما يتعلق بالأخطار والتهديدات، خاصة المتعلقة بمواجهة الإرهاب في موجته الجديدة، واحتمالات تمدده بما يهدد أمن الشرق الأوسط، فضلا عن التشابه بين الجانبين، فيما يتعلق بإدراك التهديدات المشتركة، نظرا للتشابك الواضح بين بعض عناصر الأمن القومي الإسرائيلي ونظيره العربي، ووجود قوى متربصة بالجانبين، واستثمار حالة التوتر جراء التطورات في ملف البرنامج النووي الإيراني.
تحتاج الترتيبات الأمنية الجديدة إذًا في الإقليم -بعد تفعيل مسارات التحرك- إلى تنسيق ومهام متعددة، وليست ثنائية، وهو ما سينطبق على الموقف الإسرائيلي، الذي ما زال يسعى للدخول في شراكة أمنية واسعة، وفي مجالات رحبة من التعاون الإقليمي.. وهنا سيكون لإسرائيل -بصورة أو أخرى- دور قائم وممتد في أمن البحر الأحمر، باعتبارها من الدول الرئيسية فيه، وسبق أن أبدت إسرائيل مقترحات لأمن البحر الأحمر في إطار التهديدات والتحديات المشتركة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة