تمسك الدكتور عبدالخالق عبدالله بواحدة من أهم رؤى الألفية الجديدة والمتمثلة في أن الخليج العربي يمثل مركز الثقل والقرار السياسي.
وهي الرؤية، التي جاءت بداية في كتابه "لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر" واستمرت عبر أطروحاته، التي يبدو أن أفقها يتسق بقناعة عميقة مع الحالة الخليجية، التي تراكمت سياسياً خلال العقود الأربعة، التي عاشها الخليج بعد أحداث إيران عام 1979، إذ تم بعث الهوية الخليجية.
عندما نشأ مجلس التعاون الخليجي كانت اللحظة ذاتها تشكل الهاجس المكنون في الذات الخليجية الفردية قبل السياسية، الأمن دون شيء آخر كان النقطة الصفرية، واستدرك العرب فيما بعد حقيقة أن عليهم قبول أنفسهم باختلافاتهم، فما شكلته حرب أكتوبر 1973 كان تحولا يفيد بأن للعرب أجنحة متعددة، فلولا مواقف قادة الخليج العربي مع الجيوش العربية ما تغيرت المعادلة الشرق أوسطية بعد نكسة 1967.
عاش الخليجيون اختبارات الأمن بكل ما فيها من قسوة وعنف تزايدا مع التدخلات الإيرانية في المنطقة، ولم تكن اختبارات العنف تلك إلا إشارات على أن الأعنف قادم، وهو ما حدث بتصاعد خطر التنظيمات الإرهابية وتهديداتها لكيانات الدول الوطنية، جملة التحديات الأمنية تلك شكلت الوعي الخليجي، فالأزمات الكبرى صنعت هذا الخليج، الذي قررت قياداته اتخاذ سياسات تضمن الأمن كضرورة في المنطقة الأكثر اضطراباً في العالم.
نجحت القيادات السياسية الخليجية في إدارة بلدانها وحققت المعادلة المستحيلة، وكان لدى قيادات المنطقة ما يكفي من الإرادة والإيمان لصناعة ما هو مستحيل، وتحقق المُحال بتبني مشروعات طموحة ترتكز في التنافسية على أعلى المعايير الممكنة، التنافسية هي التي جعلت من دبي مثلا أيقونة عالمية ينظر إليها كمعيار عالٍ في جودة المعرفة والاقتصاد والصحة.
لحظة الخليج ليست أبراجا عالية ومشاريع اقتصادية كبرى تستقطب رؤوس المال في العالم، بل هي أعمق من ذلك بكثير، فاللحظة لحظة تنوير عربي، فكما كانت بغداد ودمشق والقاهرة وبيروت وعدن عواصم المعرفة في عقود مضت، فاللحظة الخليجية لها تنافسيتها، ليس مع العواصم العربية، بل مع ذاتها، فالتنافس المعرفي الذاتي قاد الإمارات للوصول إلى كوكب المريخ، ويقود السعودية لإطلاق أكبر مشروع إصلاحي في العالم العربي والإسلامي، ما شكلته التنافسية في ذات المواطن الخليجي يستحق استنساخه في كل المواطنين العرب.
السباق مع الذات صعب لإثبات الانتصار والتميز، وهذا ما تعيش فيه المنطقة الخليجية من سباق ومنافسة، وسط تحديات أمنية تواجَه بسلاح التنوير والمعرفة، فالخليجي عرف كيف يكون رائد فضاء وصانع محتوى إعلامي ومؤثرا في الذوق العام بالموسيقى والأدب، بل وقادر على تحقيق الحماية العسكرية لنفسه بنفسه، وما التجربة الحية التي تعيشها القوات السعودية والإماراتية إلا واحدة من الحقائق التي يجب أن تدرس بعناية واهتمام بالغ.
الواقعية السياسية مدرسة وسياق مختلف في النمطية العربية، عاشها حكام وقادة الخليج العربي وتعايشت الشعوب مع تحدياتها، فالواقعية تعتمد على الوعي بالحقيقة وبالمخاطر وترتكز على التقييمات لمعنى القرار السياسي وتأثيراته والاستفادة من التجارب التاريخية وعدم تكرار خطايا فادحة قام بها مغامرون في التاريخ العربي أهدرت الطاقات وبددت المدخرات وسببت الأزمات المتوالية، لحظة الخليج العربي قامت وستستمر على الواقعية والوعي بمحددات الفكر ثم الأمن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة