لقد بات النطق بالعربية الفصحى يبدو اليوم كأنه من الكبائر التي ينبغي اجتنابها.
التقينا هذا الأسبوع في قاعات منظمة اليونيسكو في باريس للاحتفال بآخر ما تبقى مما يجمع العرب، بعد أن تفرقوا الى مذاهب وقبائل، وفي الوقت الذي تأكل الحروب بلدانهم وتدمّر مدنهم وتهجّر شعوبهم. التقينا للاحتفال باللغة العربية.
لا أستطيع القول إن الاحتفالية مرت من دون شعور بالحزن على ما أصاب لغتنا أيضاً، وهو النتيجة الطبيعية لما أصابنا نحن، وما نفعله بأنفسنا وبحضارتنا. فإذا كانت لغة الشعوب هي ما يعبر عن هويتها وما تعتبره عنصر فخر واعتزاز في تعاطيها مع الآخر، فإن أقل ما يقال عنا أننا، وأجيالنا الجديدة على الأخص، التي ستتحمل مسؤولية الحفاظ على هذه اللغة، بتنا نخجل من استخدامها، وإذا استخدمناها كان استخدامنا لها ركيكاً، حافلاً بالأخطاء الفاضحة، حتى لتشعر أن أرباب هذه اللغة والحريصين عليها يتوسلوننا التوقف عن استخدامها، بسبب ما نرتكبه بحقها من مجازر إملائية ولغوية.
لقد بات النطق بالعربية الفصحى يبدو اليوم كأنه من الكبائر التي ينبغي اجتنابها. تابعوا معي ما نشاهده على فضائياتنا العربية المنتشرة على الشاشات. بالكاد تسمع عليها عبارة بالفصحى، وأنا لا أتحدث هنا عن البرامج الترفيهية، التي قد يجد المرء عذراً لها إذا لجأت الى العامية. لكن ما الذي يحول دون أن تكون نشرات الأخبار والبرامج السياسية بالفصحى، وأن يشرف عليها من هم ضليعون بقواعد هذه اللغة، للحفاظ على الحد الأدنى من أصول التحدث بها. وهو ما يحصل على كل المحطات الأجنبية التي تهتم اهتماماً خاصاً بأصول لغتها.
أما عن شبابنا، فقد باتت العربية بالنسبة اليهم واجباً دراسياً يفضلون تجنب أعبائه ما أمكن. ليس فقط لأن إتقانها لا يؤهلهم لمتابعة أي اختصاص في المستقبل في المجالات العلمية والتقنية التي يسعون وراءها، بل لأن كل همّهم بات الخروج من بلدانهم عبر باب أول سفارة تتيح لهم فرصة الهجرة، وأصبحت اللغة العربية بالتالي آخر ما يحلمون بحمله في حقائبهم.
لغتنا إذاً في أزمة مصيرية. لا أقول إنها يمكن أن تؤدي الى اضمحلال هذه اللغة كما حصل للغات عريقة أخرى مثل اللاتينية... العربية هي لغة القرآن الكريم، يتلو بها بليون مسلم حول العالم صلواتهم، خمس مرات في اليوم. لكنها لا تستطيع أن تبقى فقط لغة دين وتراث. فهناك لغات أخرى تحوّلت فقط الى لغات لا يلجأ اليها المؤمنون إلا في صلواتهم، كاللاتينية التي سبقت الإشارة اليها، أو السريانية والآرامية، التي ما زال مسيحيون في المنطقة العربية يتلون بها صلواتهم، لكن هذه اللغات انقرضت من التداول اليوم، حتى أن معظم من يستخدمونها في صلواتهم لا يدركون معاني العبارات التي يرددونها.
روى لنا الصديق الدكتور زياد الدريس، المندوب الدائم للمملكة العربية السعودية في اليونيسكو، كيف نشأت فكرة دعم اللغة العربية عبر منظمة اليونيسكو، من خلال برنامج خاص لهذه الغاية، اقترح إنشاءه المغفور له الأمير سلطان بن عبدالعزيز خلال زيارة قام بها الى باريس عام 2006، وتبرع بتمويله منذ ذلك الحين، حتى أصبح اليوم أحد البرامج الثابتة في نشاطات اليونيسكو. وفي الاحتفالية الأخيرة هذه السنة تم الاتفاق بين برنامج الأمير سلطان لدعم اللغة العربية ومنظمة اليونيسكو على تمويل هذا البرنامج بخمسة ملايين دولار إضافية.
خطوة مشكورة كهذه تسمح بوضع اللغة العربية على لائحة اللغات العالمية وبتعزيز تداولها في المحافل الدولية، وعلى الأخص في الأمم المتحدة، حيث أصبحت منذ سنوات إحدى اللغات الرسمية المعتمدة في المنظمة الدولية. غير أن هذه المبادرات لا تكفي، إلا إذا بادر الناطقون بالعربية أنفسهم الى كثرة استخدامها والاهتمام بها. ولعل الأمل الوحيد الباقي هو في وسائل الإعلام المكتوب، حيث لا تزال العربية الفصحى هي لغة التداول التي يتابع العرب أخبارهم من خلالها، من دون أن نغفل ما في معظم هذه الوسائل أيضاً من هفوات.
اللغة العربية هي ما يعبر عن هويتنا الجامعة. وما دامت هذه الهوية التي يفترض أن تجمعنا على ما هي عليه من تمزق، بعد أن تفوقت عليها انتماءاتنا العشائرية والطائفية والقبلية، فإن اللغة العربية ستبقى تعاني مع الأسف ما تعانيه اليوم. المشكلة ليست في اللغة العربية، التي قدمت للعالم إبداعات ثقافية وفكرية وشعرية على مدى عصور. المشكلة فينا نحن وفي ما وصلنا اليه.
نقلا عن الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة