اعذرينا يا حلب، فبعضنا هان حتى أصبح ينتظر من يبكي بدلا منه، ومن يتكلم بعد أن خرس لسانه، ومن يتوجع لأنه لا يرى فيك وجعا!
إذا قلنا إن المأساة التي تعيشها مدن عربية لا توصف ولم يخطر في البال أن تحدث؛ لأن الدمار الذي يحدث والقتل العشوائي لا يقبلهما عقل ولا قلب سليم لا في الشرق ولا في الغرب، فهذا واقعنا المعاش الذي لا يمكن أن نتكيف معه، فيكون الموت خبرا مقبولا، كما يستحيل تجاهل أن يصبح موقع جغرافي -كحلب العظيمة الصامدة- هدفا للرماة، ونتنازع على وصفه، ونسأل: هل هي محرقة أم لا؟ وهل هو قتل أم تغرير؟ وإن فعلنا فنحن ننسلخ من إنسانيتنا أمام العالم!
يلوح وجهك أمام العالم مؤلما، فقد كل ملامحه وجماله إلا الذهول الذي اخترقته كل أوجاع البشر الذين يعذبونك شبرا شبرا؛ ويتكالبون على إسقاطك وأنت تمثال حرية صامد أمام عبّاد المصالح وتجار الحروب، عاجزة إلا عن الثبات، وثابتة أمام العجز والخذلان والصمت العالمي إلا من كلمات ودعوات الشرفاء الذين يتمنون نجاتك. والحال أن المرارة والعجز قد يجبراننا على الصمت والإشاحة بوجوه تعتصر ألما، فيقول قائل: إننا فهمنا أنها لعبة ..نعم فهمنا، لكن مازلنا نحزن ونتألم لركام سقط على بشر لم ولن نعرف عددهم، ولحرقة أمهات فقدن أمومتهن إلا من الثكل؛ ولطفل ولد وكبر وتيتم أو مات وهو لم يعرف معنى السلام لأنه صنيعة الحرب! اعذرينا يا حلب فنحن إنسانيون لكننا لا نملك إلا إنسانيتنا التي تحرك مشاعرنا معك لا أكثر، وتدمع عيوننا حين تصافح ملامحك الذاهلة، ونضع عجزنا بين يديك الملطخة بالدم والأشلاء..ساعدينا يا حلب فنحن نطلب منك أنت أعظم مما تطلبين منا!
يصرخ شيخ أمام الأشلاء يا عالم والعالم لا يقدر على الإجابة.. صامتة أنت تنتظرين وتريدين تعاطفا، وهناك من يظن التعاطف مخططا للتغرير بالشباب؛ علما بأن كل الطرق لا تقود إليك يا حلب إلا القتلة والمخربين؛ والكل يراك تلفظين أنفاسك، ويخشى أن ثمن الماء الذي يخفف عطش خروج الروح غال عليك!
كل الكلمات تعجز عن تصوير مأساتنا حين نتنازع حول بلد يتفجر، بينما الغرب لا يتردد عن تصوير مأساتك.. بعد أن كتبت مقدمتي استوقفتني صورة لفتاة ترفع شاشة جوالها أمام كاميرا مراقبة كتب تحتها (شابة أميركية تعرض صور مجازر حلب على كاميرا مراقبة بيت السفير الروسي في واشنطن وهي تبكي وتصرخ قائلة: إنهم بشر إنهم أناس وليسوا حيوانات)، أعجزنا أن نكون مثل هذه الفتاة التي ابتكرت طريقة للتعبير عن تعاطفها؟!
من يموت في حلب هو منا ويهمّنا شيخا أو امرأة أو طفلا أو حتى معارضا، ويجب أن يهم غيرنا ويتعاطف معه لأن القتل والتخريب وحشي؛ فتجربة حلب وحماة في الثمانينات وتجارب السياسات الشيوعية التي تقتل البشر وكأنها تقطف الورد والأزهار؛ وبوحشية تفوق قدرة العقل على التخيل.
تكالب عليك الطغاة من الأرض والسماء، وهم يعلمون أنه لا يحق لهم قتل طفل ولا اقتلاع شجرة، فكيف بمحو مدينة؟!
إنسانيون يا حلب، وندرك عظم مصابك، ونضج بالدعاء، إنسانيون يا حلب، لكننا لا نملك أن نسقط طائرة أو ندفع برميلا. أعظم الكوارث أن كارثتك ليست طبيعية، فليست بركانا ولا طوفانا ولا ريحا عاتية، اعذرينا يا حلب، فبعضنا هان حتى أصبح ينتظر من يبكي بدلا منه، ومن يتكلم بعد أن خرس لسانه، ومن يتوجع لأنه لا يرى فيك وجعا! وعجزنا عن أن نعرف هل البلاء الأعظم حل بك أم بنا؟!
إنسانيون يا حلب، لكن إنسانيتنا تنوء بالعجز والخذلان أمامك مهما فعلنا، لك كل الحب، ولك كل الدعاء، واعذري صمتنا المتألم.
نقلا عن / الوطن
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة