صنع الله إبراهيم.. رحلة إخلاص للتجريب الأدبي
صنع الله إبراهيم ظاهرة خاصة في حياتنا الأدبية المعاصرة من أكثر الكتاب إخلاصًا للكتابة وتفرغا لها ومن أكثرهم تجريبًا وأمانة في التجريب
يوشك الكاتب والروائي المصري صنع الله إبراهيم (80 عاما)، الحائز أخيرًا على جائزة اتحاد الكتاب المصريين للتميز في الرواية، أن يكون من أكثر أبناء جيله (الستينيات)، استقلالية وانفرادا وبعدا عن الدوائر والمؤسسات الرسمية، ككاتب ومثقف، ورفضا للجوائز الأدبية والتكريمية التي تمنحها أيضا! اعتذر عن قبول جائزة الجامعة الأمريكية التي تحمل اسم نجيب محفوظ عام 1998، مسجلا اعتراضه على منح جامعة أمريكية جائزة تحمل اسم كاتب عربي كبير. واعتذر كذلك عن تسلم جائزة الرواية العربية التي قدمتها له وزارة الثقافة المصرية عام 2003، مسجلا إدانته تجاه ممارسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، ولم يكن يقبل من الجوائز إلا ما يرى أنه لا يمس استقلاليته من ناحية، وبما لا يتعارض مع موقفه السياسي والفكري من ناحية ثانية.
صنع الله إبراهيم، وكما وصفه مجايله الكاتب الراحل علاء الديب "ظاهرة خاصة في حياتنا الأدبية المعاصرة"؛ لأنه من أكثر الكتاب إخلاصًا للكتابة، وتفرغا لها، ومن أكثرهم تجريبًا وأمانة في التجريب، كما أنه من أكثرهم التزامًا بقضاياه الاجتماعية والفكرية في وسط ما يعتمل في الواقع الفني والاجتماعي من دوامات حقيقية وزائفة.
ينتمي صنع الله إبراهيم بحكم المولد والنشأة إلى جيل الستينيات الذي ضم، بالإضافة إليه، أسماء بهاء طاهر، إبراهيم أصلان، خيري شلبي، جمال الغيطاني، علاء الديب، محمد البساطي، عبد الحكيم قاسم، يحيى الطاهر عبد الله، أحمد الشيخ، مجيد طوبيا، وآخرين. اختط كل منهم طريقه وفق الرؤية التي تشبع بها والقناعة الفكرية والجمالية التي كونها، منهم من اتخذ طريق استلهام التراث والحفر عن جذور السرد العربي طريقا لتشكيله، ومنهم من سعى بدأب لاكتشاف العناصر الجوهرية في تراثنا الشعبي الفولكلوري لينطلق منه للبحث عن شكل روائي مغاير، وهكذا.
أما صنع الله إبراهيم فكان من الكتاب القليلين الذين نجحوا في إحداث قطيعة حاسمة مع التقنيات الواقعية السائدة آنذاك، بكسره عامدًا قواعد المنظور الروائي وتراتب أهمية التيمات والأحداث في الرواية. وانفرد صنع الله، دون أبناء جيله بتكنيك مميز، توضحه الناقدة نادية بدران بقولها "تعتمد تركيبة البنية السردية في أعمال صنع الله على مادتين متلازمتين: الوصف الدقيق للواقع الروائي بمختلف علاقاته المتشابكة من أحداث وشخصيات، والمادة التسجيلية الخالصة التي تعرض مقتطفات إخبارية وثائقية شتى مستمدة من الواقع الفعلي لزمن كتابة الرواية".
وركز صنع الله على توظيف تلك التقنية التي لم تظهر بوضوح من قبل في الرواية العربية، أو على الأقل لم تكن ضمن مدونة التقنيات الظاهرة التي استخدمها الكتاب والروائيون قبل صدور روايته "بيروت بيروت" التي دارت وقائعها حول الحرب الأهلية في لبنان، ومعها انتشرت؛ أي تقنية التوثيق والتسجيل على نطاق واسع مع ما أسماه نقادٌ بـ "رواية المقاومة" (هذه التقنية قدمها الروس بعد الحرب العالمية الأولى).
وفي هذا الإطار كرس صنع الله لجمالية التوثيق والتسجيل في الرواية العربية، وبحيث تكون هناك علاقة تبادلية مشتركة بين شقي النص "المرجعي" و"المتخيل"، ويشكلان معا وحدة دلالية واقعية للعمل، ذات أبعاد متشعبة، متناقضة فيها مفارقة وسخرية من مجريات العصر، وتغدو شخصيات العمل وأفعالها إفرازًا طبيعيًا، للمرحلة الزمنية التي تصورها الرواية. وهذه التوليفة تجعل الرواية وثيقة فنية تاريخية لفترة بعينها، بحسب ما تقول نادية بدران.
هكذا، بدا من واقع إنتاج صنع الله الروائي أنه من أبرز الروائيين الذين كتبوا "الرواية السياسية" من بين أبناء هذا الجيل، ودانت كل أعماله الأنظمة الحاكمة ورفضه الشديد لكل مظاهر القمع والقهر والفساد، والتغلغل الأجنبي بكل أشكاله، وما يترتب على ذلك من معاناة للبشر.
وفي ورقة بحثية للأكاديمي والمستعرب والمترجم الفرنسي ريشار جاكمون، الذي ترجم سبع روايات لصنع الله إبراهيم إلى الفرنسية، رصد وضعية الكاتب الكبير في الحقل الثقافي المصري بحراكه الفريد الذي حلله وفق منهج بيير بورديو الشهير، واستخدمه في دراسته المهمة لجيل الستينيات والحقل الأدبي المصري. وركز جاكمون على نفوره من النشر في منابر المؤسسة الرسمية، وعلى الحياة المتقشفة التي فرضها على نفسه كي يحافظ على استقلاله، وينمي عبر هذا الاستقلال النادر رأسماله الرمزي والأدبي، برغم عدم حصوله على امتيازات أو جوائز، بل ورفضه الشهير لها حينما جاءته بغير سعي منه.
وأكد جاكمون، بحسب منهجية بورديو التي يطبقها، أن من يخسر الأموال والجوائز هو في الواقع الأدبي من يفوز في المجال القيمي والرمزي. كما ربط بين موقعه في الحقل الأدبي العربي الأوسع، وتعريته لجمود المؤسسة، وبين تعريته للكتابة وتخليصها من كل تزيد وترهل، بالصورة التي استحق معها، وفق مصطلح بورديو الشهير، لقب الكاتب الطليعي المكرس.
إضاءة تاريخية
ولد الروائي والقاص المصري، صنع الله إبراهيم في حي العباسية بالقاهرة عام 1937، في أسرة مكونة من الأب الذي يعمل في وظيفة حكومية متواضعة، والأم التي ـ كانت الزوجة الثانية للأب، وتعمل ممرضة بأحد المستشفيات. طلقت أمه من أبيه ثم توفيت، وتركته وهو في الثامنة من عمره، حيث تولى والده تربيته هو وأخته. وعاش صنع الله طفولة جافة افتقد فيها حنان الأم، فكان دائم الانطواء منعزلًا عن الآخرين. أولع في مراحل الدراسة الإعدادية بقراءة روايات "الجيب" البوليسية التي ذاع انتشارها في تلك الفترة، وانعكس ذلك جليا في أولى محاولاته لكتابة القصة، ففي المرحلة الثانوية، كتب قصة بوليسية لم يحدد اسما لبطلها.
ثم أتم دراسته الثانوية والتحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وفي أثناء دراسته اشترك في إصدار مجلة الحائط بالكلية، وأبدى اهتماما خاصا بالمشاركة في الأنشطة السياسية من خلال حضوره الاجتماعات وطبع المنشورات المعارضة للنظام. ثم انضم إلى إحدى خلايا تنظيم "حدتو" اليساري، مما أدى إلى اعتقاله، وأثر ذلك على دراسته، فترك الجامعة إلى غير رجعة.
عمل محررا بإحدى دور النشر. ونشر أول قصة بعنوان "الأصل والصورة" في إحدى المجلات، ولكنه تعرض للاعتقال مرة أخرى ضمن حملة الاعتقالات التي تعرض لها الكثير من الكتاب والمفكرين اليساريين، وظل بالمعتقل من عام 1959 حتى عام 1964.
وعقب خروجه من المعتقل (1964) نشر بعض المقالات، واستكمل روايته الأولى "تلك الرائحة" (1966)، مع مقدمة ليوسف إدريس ذكر فيها أن الرواية القصيرة تلخص "فترة من حياة جيل صنع الله، إنها صفعة أو صرخة أو آهة منبهة قوية تكاد تثير الهلع"، ولكن الرواية صودرت لاعتراض الرقابة على محتواها.
بعدها، عمل صنع الله محررا بالقسم العربي لوكالة أنباء الشرق الأوسط، ثم وكالة أنباء ألمانيا الشرقية (1971 - 1986) وهي التي صور جانبا منها في روايته "برلين 69". وفي نهاية عام 1971 سافر إلى روسيا ليدرس التصوير السينمائي في معهد موسكو للسينما (1971 ـ 1974)، ومنذ عام 1975 تزوج وتفرغ للكتابة ولم يلتحق بأية وظيفة رسمية أخرى.
من أهم الروايات التي كتبها صنع الله إبراهيم: "تلك الرائحة" (1966)، و"نجمة أغسطس" (1974)، و"اللجنة" (1981)، و"ذات" (1992)، "أمريكانلي" (أمري كان لي) (2003)، و"التلصص" (2007).. وغيرها.
ورغم اعتذاره عن قبول عدد من الجوائز فإنه حصل على الكثير غيرها، منها جائزة غالب هلسا من اتحاد الكتاب الأردنيين عام 1992، وجائزة سلطان العويس عام 1994، وجائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر عام 2004.