على المستوى العربي، تم توقيع الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد بالقاهرة في ديسمبر 2010.
أعود للكتابة للمرة الرابعة عن موضوع مكانة العرب في المؤشرات العالمية. وقد تناولت في هذه المساحة من قبل مكانة العرب في عدد من التقارير الدولية كالتنافسية، وأداء الأعمال، والتجارة الإلكترونية، وذلك لأن الدول لا تعيش بمعزل عن بعضها البعض ولا تتوقف مكانتها على ما تقوم به وحسب، وإنما مقارنته بما أنجزته الدول الأخرى. فمن المهم للغاية أن ننظر إلى أوضاعنا في كل المجالات من منظور مقارن.
على المستوى العربي، تم توقيع الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد بالقاهرة في ديسمبر 2010، التي أنشأت بدورها آلية للمراجعة فانعقد مؤتمرها الأول في المغرب في يناير 2020. وارتبط بذلك، إصدار أغلب دول العالم استراتيجيات وبرامج عمل لمكافحة الفساد.
وأتناول اليوم ترتيب الدول العربية على مؤشر مدركات الفساد العالمي الذي صدر في يناير 2020. وهو التقرير الذي يشار إليه باللغة الإنجليزية بحروف CPI، وهي الحروف الأولى من كلمات Corruption Perceptions Index. وغطى التقرير هذا العام عدد 180 دولة.
صدر هذا التقرير لأول مرة عام 1995 عن منظمة "الشفافية الدولية"، وهي منظمة دولية غير حكومية معنية بتعقب ممارسات الفساد وإشاعة ثقافة النزاهة والشفافية، ومقرها العاصمة الألمانية برلين. ويسعى لتقديم صورة عن درجة انتشار ممارسات الفساد في القطاعات الحكومية والسياسية والحزبية في الدول والمناطق المُختلفة، ومدى التغير في أحوالها من عام لآخر.
بدأ التقرير في أعداده الأولى بتبني تعريفات مبسطة للفساد. وفي عام 2005 تم تطوير مؤشر مركب ومتعدد الأبعاد تم تصميمه بناء على بحوث ومسوح بينية أجرتها عدد 16 مركزاً جامعياً وبحثياً في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وسويسرا، وألمانيا، وبلجيكا، إضافة إلى الجنة الاقتصادية للأمم المُتحدة لغرب أفريقيا. وكان أحد أهداف هذا التطوير هو تجاوز المؤشرات النابعة من اقتصادات الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا الشمالية، وإدخال عناصر ومؤشرات مشتقة من الاقتصادات الناشئة والنامية. يعتمد التقرير على بيانات ومعلومات تفصيلية تُشارك في جمعها عدد 12 مؤسسة علمية وبحثية كما يعتمد على شهادات وخبرات عدد من رجال الأعمال الذين مارسوا نشاطهم في كل دولة، وأيضاً آراء وتقديرات عدد من الخبراء والمتخصصين في هذه الدولة. ويتم بعد ذلك تقدير أوزان إحصائية عن حالة الفساد في الدول التي يغطيها التقرير.
ويركز التقرير على مجموعة من المؤشرات المرتبطة بثلاثة موضوعات: الأول: هو النزاهة السياسية الذي يشير إلى الحفاظ على العملية السياسية وتفاعلاتها في الدولة بمنأى عن تأثير المال والمصالح الخاصة، وهو موضوع قديم في التحليل السياسي، فقد اهتم الباحثون في نظم الحكم بكيفية ضمان أن تكون سياسات الحكومة ممثلة لمصالح المواطنين في مجملهم، وألا تقع في براثن أقلية من كبار الأغنياء ورجال الأعمال والحيلولة دون أن تتأثر القرارات بالمال السياسي، وهذا هو التعبير الذي يُستخدم للدلالة على توظيف الأموال للحصول على مزايا أو مكاسب سياسية واقتصادية. والثاني: هو الالتزام بالشفافية بشأن تمويل الحملات الانتخابية في الدول الديمقراطية التي أصبحت تكلفتها باهظة. مما يتطلب إنفاذ قواعد صارمة على تمويل المرشحين وحملاتهم الانتخابية. فكلما كانت المساهمات المالية في هذه الحملات مُعلنة وتحت الرقابة قلت نسبة الفساد، وعندما تضعف فإن الباب يصبح مفتوحاً لممارسات الفساد. والثالث: هو عملية اتخاذ القرار وضمان ألا تتأثر بغير اعتبارات الصالح العام وليس بأي أهواء شخصية أو فئوية، وأن تكون المناقشات بشأن البدائل المتاحة قبل اتخاذ القرار أو تبني السياسة على أسس موضوعية ونزيهة. وهي الفِكرة التي تسمى بضرورة منع "التناقض في المصالح" لدى كِبار العاملين في الحكومة. فتصدر القوانين والقرارات المنظمة لهذا المنع لضمان عدم تأثر القرار بالمصالح الشخصية لمن يشاركون في صنعه واتخاذه.
ووفقاً للتقرير الذي يُغطي عام 2019، فقد تصدرت كل من الدنمارك ونيوزيلاندا قمة الترتيب العالمي، وتلاها فنلندا، وسنغافورة، والسويد، وسويسرا، والنرويج، وهولندا، وألمانيا، لوكسمبورج. ويلاحظ على هذه القائمة غلبة الدول الأوروبية (8 دول من 10)، ودولتان من الشرق الأقصى، وأنها شملت كل الدول الاسكندنافية، وأن غالبيتها من الدول التي لا يزيد عدد سكانها عن الخمسة ملايين نسمة، وأنه غاب عنها أغلب الدول الصناعية أعضاء مجموعة الثمانية، وكل الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
أما الدول العشر التي احتلت قاع الترتيب العالمي فكانت: ليبيا، وكوريا الشمالية، وأفغانستان، وغينيا الاستوائية، والسودان، وفنزويلا، واليمن، وسوريا، وجنوب السودان، والصومال. تضم هذه القائمة 5 دول عربية. ومن حيث التوزيع الجغرافي، يقع أغلبها (7 دول) في أفريقيا واثنتان في آسيا، ودولة واحدة في أمريكا الجنوبية. وقد أشار التقرير إلى أن أكثر المناطق نجاحاً في مكافحة الفساد كانت أوروبا الغربية، وأن أدناها هي الدول الأفريقية جنوب الصحراء.
وبالنسبة للدول العربية، فقد تصدرت القائمة دولة الإمارات العربية المتحدة للمرة الثانية وكان ترتيبها العالمي (21)، وتلاها قطر (30)، والسعودية (51)، وسلطنة عُمان (56)، فالأردن (60). وبمقارنة الترتيب العالمي لهذه الدول بالعام السابق، يُلاحظ أن هناك دولاً أحرزت تقدماً ودولاً أخرى تراجع ترتيبها. فكانت الصدارة الإمارات التي تقدمت مركزين، وقطر بثلاثة مراكز، والسعودية بسبعة مراكز. بينما تراجعت سلطنة عُمان بعدد 3 مراكز، والأردن بمركزين.
ويلاحظ على الدول الخمس العربية الأكثر تقدماً في المؤشر أن أربع منها من دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى الأردن. كما يلاحظ أن الإمارات جمعت بين صدارتها للدول العربية في هذا المؤشر وصدارتها لمؤشرات التنافسية الدولية، وأداء الأعمال، والتجارة الإلكترونية، مما يشير إلى أن الإنجاز في الأداء العام لمؤسسات الدولة هو ذو طابع تراكمي، وأن التقدُم في أحد المجالات يوجد البيئة المناسبة ويُحفز على التقدم في مجالات أخرى.
وإذا صنفنا الدول العربية حسب الترتيب العالمي إلى مجموعات تشمل كل مجموعة 45 دولة، سوف نجد أن الربع الأول يشمل دولتين فقط هما الإمارات وقطر، وأن الربع الثاني يشمل 7 دول وهي: السعودية، وسلطنة عُمان، والأردن، وتونس، والبحرين، والمغرب، والكويت. والربع الثالث يضُم ثلاث دول هي: الجزائر، ومصر، وجيبوتي. وأن الربع الأخير يشمل تسع دول هي: لبنان، وموريتانيا، وجُزر القمر، والعراق، وليبيا، والسودان، واليمن، وسوريا، والصومال، وهو أكبر عدد للدول العربية في أي مجموعة.
لقد ازداد اهتمام المنظمات الدولية والدول عموماً بقضية مكافحة الفساد، فأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة أكثر من قرار وعقدت أكثر من مؤتمر بشأن الاستراتيجيات الواجب اتباعها لمكافحة الفساد أدت في النهاية إلى توقيع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد عام 2003 التي دخلت حيز التنفيذ في 2005 بعد استكمال العدد اللازم من الدول التي صدقت عليها. وأنشأت الاتفاقية آلية دورية لمتابعة تنفيذ الدول للاتفاقية، التي كان أحدث اجتماعاتها في سبتمبر 2019. وذلك بهدف مناقشة أفضل الممارسات التي اتبعتها الدول في مجال مكافحة الفساد وأنجحها، وذلك بهدف نقل الخبرات فيما بينها. وعلى المستوى العربي، تم توقيع الاتفاقية العربية لمكافحة الفساد بالقاهرة في ديسمبر 2010، التي أنشأت بدورها آلية للمراجعة فانعقد مؤتمرها الأول في المغرب في يناير 2020. وارتبط بذلك، إصدار أغلب دول العالم استراتيجيات وبرامج عمل لمكافحة الفساد.
إن الرسالة التي يحملها هذا التقرير أن ممارسات الفساد ما زالت منتشرة في عديد من أرجاء العالم وأن سياسات واستراتيجيات مكافحة الفساد التي تبنتها أغلب الدول لم تؤتِ ثمارها بشكل واضح بعد. ويرجع ذلك إلى أن الفساد له شق مادي وشق معنوي. يتمثل الشق المادي في أنه تعبير عن شبكة مُترابطة من العناصر الفاسدة في داخل القطاع الحكومي والقطاع الخاص والمؤسسات السياسية والاجتماعية والاعلام تتساند فيما بينها لاستمرار هذه الممارسات التي تجني من ورائها أرباحاً غير قانونية طائلة. أما الشق المعنوي فهو ثقافة الفساد والتي أشير بها إلى انتشار منظومة من القيم التي تبرر ممارساته وتسبغ عليه شرعية ما، ومن ذلك الأمثال الشعبية في بعض بلادنا العربية مثل "النبي قبل الهدية" و"اللي ملوش خيره في أهله ملوش خير في أحد".
ويترتب على ذلك أن استراتيجيات مكافحة الفساد يجب أن تجمع بين سن القوانين التي تؤثم ممارسات الانحراف بالوظائف العامة والمناصب السياسية، وإقامة مؤسسات الرقابة الفعالة التي تستطيع تعقب هذه الممارسات والكشف عنها، وإشاعة قيم النزاهة والأمانة. إن الفساد هو آفة لعينة يؤدي انتشارها إلى تخريب الاقتصاد والسياسة والاجتماع ويستدعي محاربتها جهداً متكاملًا من كل أطراف الدولة والمجتمع.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة