بداية، لابد من التأكيد على أن إيران نجحت في توظيف سلاح المذهب لخدمة مشروعها الإمبراطوري التوسعي؛ على حساب العالم العربي
تناول المقال السابق كيف وظّفت إيران سلاح المذهب في اختراق الدول العربية وإسقاطها، واستتباعها لها، وسيطرتها على مقدراتها، وأخيراً تطويق العالم العربي في الحزام الأفريقي والآسيوي، وسيتم تخصيص هذا المقال لتناول كيف يستطيع العرب تطوير استراتيجية مستدامة تمكِّنهم من تجريد إيران من هذا السلاح الذي كان سبباً في تدمير ثلاث دول عربية على الأقل.
بداية، لابد من التأكيد على أن إيران نجحت في توظيف سلاح المذهب لخدمة مشروعها الإمبراطوري التوسعي؛ على حساب العالم العربي بسبب الخلل الهيكلي في بنية المجتمعات، والدول العربية متعددة المذاهب والأعراق واللغات، فقد فشلت الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال في معالجة إشكاليات الهويات الدينية والعرقية بصورة سليمة؛ تضمن استمرار التعايش المشترك، وتحافظ على الوحدة في ظل تعددية عادلة يحترم كل طرف فيها خصوصيات الطرف الآخر، فقد عانى العالم العربي في القرن الماضي من هيمنة رؤية واحدة، وأيديولوجية واحدة، وعرق واحد، ومذهب واحد، واعتبر وجود الآخرين تفضّلاً ينبغي أن يشكروا الأغلبية المسيطرة عليه.
الفشل في وضع سياسات ناجحة وناجعة للهوية في العالم العربي يعد أكبر ضعف مزمن في عملية بناء الدولة، وقبلها بناء المجتمع في العالم العربي على مدى ثلاثة أرباع قرن ماضية، وهذا خلق أزمات متعددة متراكمة قادت إلى حالة القابلية للاستتباع لدول خارجية مثل إيران.
ولمعالجة هذا الخلل في بناء المجتمع والدولة في العالم العربي نقترح الاستراتيجيات الآتية:
أولاً: نظام تعليمي يستوعب الجميع من جميع المذاهب، سنة وشيعة وإباضية، بحيث يتعلم التلميذ والطالب من أي مذهب أن هناك تطابقاً بين دولته ومذهبه، ولا يشعر إطلاقاً أنه يعيش في دولة، ومذهبه ورموزه في دولة أخرى، هنا تحدث ازدواجية الولاء بصورة تلقائية ولا إرادية، والمسؤولية تقع على النظام التعليمي الذي انحاز لمذهب معين، وهمَّش المذهب الآخر، وبالتالي همَّش أتباع هذا المذهب؛ الذين سوف تتعلق قلوبهم بدولة أخرى يرون فيها أنها هي حامية المذهب ورموزه، وهذا النظام التعليمي التعددي ليس بالأمر العسير؛ فقد تم تنفيذه في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ خمسة عشر عاماً، حين أشرفت على وضع مناهج التربية الإسلامية من الصف الأول الابتدائي إلى الصف الثالث الثانوي، وتم تضمين المنهج شخصيات ومواقف ورموزاً تجعل الطلاب من جميع المذاهب الإسلامية في حالة من الشعور بالانتماء لدولتهم، والشعور أنها تحتفي برموزهم، وفي نفس الوقت تجعل هناك روابط وقواسم مشتركة بين أبناء جميع المذاهب الإسلامية.
ثانياً: ضبط العلاقة بين المذاهب من خلال القانون، وليس من خلال العواطف، أو الاعتماد على الوازع الديني، وذلك من خلال إصدار قوانين تجرِّم التمييز والكراهية بين المذاهب والأديان عموماً، وذلك أسوة بالقانون رقم 2 لسنة 2015 الذي أصدرته دولة الإمارات العربية المتحدة لمكافحة التمييز والكراهية، والذي ينصُّ في المادة 3 على "لا يجوز الاحتجاج بحرية الرأي والتعبير لإتيان أي قول أو عمل من شأنه التحريض على ازدراء الأديان أو المساس بها، بما يخالف أحكام هذا المرسوم"، وإذا تم تطبيق هذا في جميع الدول العربية التي توجد بها تعددية مذهبية أو دينية لن نجد هناك برامج تلفزيونية، أو مقالات صحفية أو خطب جمعة تتعرض للمذاهب الأخرى بأي تعبير يشعر أتباعها بالإهانة أو النقد، وبذلك لا يضطر الإنسان الطبيعي أن يتعلق بدولة أخرى مثل إيران، ولن يكون لها في شعوره مكان، ومن يفعل ذلك يكون في موقع آخر غير طبيعي وغير وطني.
الفشل في وضع سياسات ناجحة وناجعة للهوية في العالم العربي يعد أكبر ضعف مزمن في عملية بناء الدولة، وقبلها بناء المجتمع في العالم العربي على مدى ثلاثة أرباع قرن ماضية، وهذا خلق أزمات متعددة متراكمة قادت إلى حالة القابلية للاستتباع لدول خارجية مثل إيران
ثالثاً: تأسيس المرجعية الدينية الوطنية، وذلك من خلال دعم مؤسسات تعليمية لكل المذاهب الممثلة في المجتمع، فكما أن هناك جامعة للتعليم الديني السني، لابد أن تكون هناك أيضاً جامعة للتعليم الديني الشيعي، أو كلية إذا كان عدد السكان لا يحتاج إلى جامعة، وهنا لا يحتج بأن إيران لا تفعل ذلك مع السنة، فهذه مشكلتها، ولا نريد استيرادها، وهذه أزمتها التي ستدفع يوماً ما ثمنها عادلاً. ومن خلال التعليم الديني يمكن تأسيس مراجع تقليد وطنية، حتى ولو تم استقدام علماء، ومراجع من دول أخرى، ويتم منحهم الجنسية حتى يكون المرجع الديني داخل الحدود وليس خارجها، وحتى لا تحدث حالة ازدواجية الولاء بين المرجعية الدينية والمرجعية السياسية، وحتى لا يحدث الخلط بين المرجعية الدينية خارج الدولة، والولاء السياسي للدولة التي توجد فيها المرجعية الدينية، وهذه هي الحالة الكارثية التي يعيشها حزب الله في لبنان الذي يقلّد آية الله علي خامنئي، ومن ثم ولاءه لإيران وليس للبنان.
رابعاً: أن يتم تنظيم النشاط المالي الديني بالقانون، بحيث يتم منحه لمرجعيات دينية داخل الدولة، ولا يتم تحويله عبر الحدود، وهذا حق للدولة التي يجب ألا يكون لأي جهة سلطة فرض تكاليف مالية بصورة طوعية أو إكراهية على مواطنيها، ومن حقِّها ألا تسمَح باستنزاف ثرواتها وتحويلها لجهات ليست لها رقابة عليها، ولا تعلم أين سيُنفق هذا المال؟، وفي أي نشاط؟، ولمصلحة مَنْ؟، ولخدمة أية أهداف سياسية؟
خامساً: أن يتم الاعتراف بالمناسبات الدينية لجميع المذاهب، خصوصاً المناسبات الكبرى، وذلك أسوة بجمهورية مصر العربية التي جعلت يوم عيد الميلاد عند الأقباط إجازة رسمية، ومن حق الدولة فرض قوانين وقواعد معينة للاحتفال بهذه المناسبات، بحيث لا يتم فيها ارتكاب أفعال شاذة ليست من صميم عقيدة ذلك المذهب.
سادساً: ضمان تحقيق العدالة بين جميع المواطنين بغض النظر عن مذاهبهم، بحيث لا يستطيع أحد استخدام حالات فردية لخلق مظلومية جماعية، وتوظيفها سياسياً مثلما حدث مع جماعة الحوثي في اليمن، وقبلها مع شيعة لبنان؛ مما مهّد الطريق لنشوء حزب الله.
سابعاً: وضع قوانين تجرِّم أي فعل من شأنه السماح لدولة أخرى مثل إيران أن يكون لها، أو لمؤسساتها الدينية، أو مراجعها أي دور أو سلطة رمزية أو اعتبارية، واعتبار ذلك مخالفة للقانون، وتعاوناً مع دولة أجنبية، بما يهدد مصلحة الوطن للخطر.
بهذا الطريقة العادلة؛ التعليمية والثقافية والقانونية يمكن للدول العربية أن تستردَّ مواطنيها من سلطة وسيطرة ونفوذ إيران كدولة، أو إيران كمؤسسات دينية ومراجع وعلماء ورموز، وبدون هذه العدالة الحقيقية العميقة التي يشعر معها المواطن أن دولته تحترم مذهبة بكل ما تعنيه الكلمة؛ سيكون من الصعب السيطرة على الأفراد والتحكم في ضمائرهم، ومنعهم من التعلق بالدولة التي تقدم نفسها على أنها هي الوحيدة الحارسة لمذهب آل البيت، والحامية له، والمدافعة عنه، والتي تسعى لنشره حتى يعمّ العالم الإسلامي، وهي في الحقيقة تستخدم المذهب سلاحاً لتحقيق أهدافها السياسية على حساب الدول العربية؛ وحالة العراق واليمن وسورية لا تحتاج إلى مزيد شرح أو إيضاح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة