لم يفت على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن يستغل ظهوره في مناسبة محلية ليرسل رسائل عميقة المغزى ودقيقة المعنى محلياً وإقليمياً
لم يفت على رئيس جمهورية مصر العربية، عبد الفتاح السيسي، أن يستغل ظهوره في مناسبة محلية يفتتح فيها مشروعات تنموية كبرى ليرسل رسائل عميقة المغزى ودقيقة المعنى محلياً وإقليمياً، وجه رسالته متعددة الأهداف إلى شعب مصر أولاً المعني الأول بهذه المناسبة، وإلى أشقائه في السودان ثانياً (شعباً وحكومة)، وإلى أشقائه الإثيوبيين أيضاً، ولا أظن أن هناك كلمات أوضح ولا أكثر صراحة من التي نطق بها الرجل حين قطع الشك باليقين.. فأكد للجميع أن مصر لن تحارب أشقاءها و لا تتآمر عليهم، وأن شعوب المنطقة أحوج ما تكون للتكامل وليس التباغض والتنافر، في وقت دقيق تمر به دول المنطقة ودول حوض النيل على وجه أخص.
جاء في حديث الرئيس ما كان ينتظره السواد الأعظم من أبناء شعبي مصر والسودان وكذلك أثيوبيا.. مبادرة تهدئة على لسان الرجل الأول ورسالة اعتذار صادقة تطييب الخواطر، ودعوة مباشرة لا تحتمل التأويل أو التسويف لاستعادة أجواء التكاتف والتعاضد والتحاور ونبذ الخلافات السطحية، التي لا يفتأ قلة من أصحاب المصالح الضيّقة في تغذيتها وتصعيدها والنفخ في جمرها، وإبرازها في وسائل الإعلام ليتم الحديث عنها وتصويرها وكأنها مستحيلة الحل، وأن وراءها ما وراءها من لَيٍّ للأذرع وغير ذلك من أساليب "التسخين"، متناسين ومتغافلين عن كيف تجاوز الأشقاء حتى يومنا هذا كل المشكلات حتى العالقة منها، وترفعوا عن الصغائر. والذي يدعو إلى كثير من الاستغراب أن من يتصدرون مشهد "التسخين" محسوبون على الصفوة أو الواجهة في هذه البلدان مشتركة الحاضر والمصير، وهاهم يتلقون عتاباً يرتقي إلى درجة التوبيخ القوي بنفس قوة ما في تلك الكلمات من صراحة ووضوح، معناه أن ما تفعلونه ليس في صالح أحد وأن قولوا خيراً أو اصمتوا.
في دعوة السيسي من الطمأنة والنوايا الإيجابية ما يشفي الصدور، وفيها ما يمكن البناء عليه سياسياً ودبلوماسياً وشعبياً للمضي قدماً في طريق الحوار الذي لا بديل عنه في كل الملفات العالقة، وعلى رأسها ملفا سد النهضة وحلايب
في دعوة السيسي من الطمأنة والنوايا الإيجابية ما يشفي الصدور، وفيها ما يمكن البناء عليه سياسياً ودبلوماسياً وشعبياً للمضي قدماً في طريق الحوار الذي لا بديل عنه في كل الملفات العالقة، و على رأسها ملفا سد النهضة وحلايب. وفي دعوته أيضاً من العتب والشعور بالأسى على حال بلادنا الكثير، والسبب من يتصدرون المشهد في هذه البلدان من السياسيين أو المحللين السياسيين أو الإعلاميين ولا يدركون أنهم لا يحسنون صنعاً، بل و يفسدون جهوداً مضنية تُبذَل من أجل أن تنعم الشعوب بنعماء الوصل لا الهجر. بنعماء السلام والبناء والتنمية.
مالذي يمنع أن تتم ترجمة ما جاء في كلمة الرئيس السيسي إلى حقيقة على الأرض، الحوار على المسارات السياسية والدبلوماسية يسير على قدم وساق، ولا يجب أن تنعكس عثراته على وسائل الإعلام، وكأن واجب وسائل الإعلام تلقّف العثرات وتفسيرها في اتجاهات مقيتة، وبأسلوب فيه من التعميم الفج والمؤذي؛ ما يشير إلى أن موقف الشعوب من موقف هذا المتحدث أو ذاك أيا كان المتحدث (محللاً سياسياً أو إعلامياً)، أو أن موقفهم من موقف الوسيلة الإعلامية التي ارتضت لنفسها أن تتبنى التصعيد تجاه الأشقاء (وهي بذلك إما لا تلقي بالاً ويهمها مشاعر متابعيها وهذا عيب كبير، أو أنها تضع في حسبانها أن متابعيها محدودون جداً ولن ينزعج أحد من أسلوبهم وهذا أيضا معيب جداً)، الشعوب تتأذى كثيراً يا سادة يا كرام من كل كلمة من شأنها أن تقحمهم في ما ليس لهم فيه ناقة ولا جمل.
أكتب كشخص يهمه أن ينعم هذا الجزء من العالم بما تنعم به بقية أجزائه من أمن وسلام واستقرار ورخاء وبناء وتنمية، يهمني أن يجد من يتولى أمور بلادنا المساندة والإرشاد - طالما أنه يمسك بدفة السفينة في هذا التوقيت العاصف؛ حتى يصل الجميع إلى بر الأمان لأننا جميعاً على سفينة واحدة، وأعتقد أن دور وسائل الإعلام والإعلاميين على وجه أخص أشبه بدور الملاحين أو من يساعدون ربان السفينة إلى ما خفي من علامات تتعلق بمسار الطريق، ليكون دورهم مسانداً في تفادي العقبات والفخاخ، وإن حدثت عثرة فتقريب وجهات النظر، والمبادرة إلى إبراز الأدوار غير الرسمية في مختلف المسارات أمر يتوقعه الجميع.
طالما أن الإعلام قوة ناعمة وأداة سريعة التأثير، وجرب الجميع سيئاتها أكثر من حسناتها.. فلماذا لا نجرّب الحسنات لبعض الوقت ونعطيها فرصتها.. (إن الحسنات يذهبن السيئات) صدق الله العظيم .. ومن الحسنات التي يمكن تفعيلها بسهولة ويسر ودون أدنى احتياج لأي إجراءات أمنية أو سياسية إفراد مساحات لبرامج تلفزيونية وإذاعية مشتركة، وإنتاج أعمال درامية مشتركة بدلاً من الإغراق في المحلية والإنغلاق على الداخل، ولنا في جيراننا وأشقائنا في الخليج مثال حي.. برامجهم التلفزيونية الترفيهية والاقتصادية والسياسية والثقافية يتابعها ويتفاعل معها كل الخليجيين، وكذلك الحال مع الدراما الخليجية المشتركة.
ولدي في هذا السياق عتب على القائمين على وسائل الإعلام الرسمية ومُلاك الخاصة منها في مصر، حيث كيف يُعقل أن لا يكون هناك برنامج تلفزيوني مشترك واحد على الشاشات المصرية؟ وكذلك كيف لا تُبَث أغنية سودانية واحدة على أثير أي من القنوات الإذاعية والتلفزيونية؟ اللهم إلا على إذاعة وادي النيل المشتركة بين مصر والسودان، والتي للأسف الشديد لم تتم الاستفادة منها في تحقيق أهدافها.. وربما يعرف كثيرون أن كوكب الشرق أم كلثوم، رحمها الله، تغنت بصوتها العذب في السودان في العام 1968، ومنذ ذلك التوقيت ومن قبله يعشق السودانيون الأغنية المصرية ويداومون على سماعها حتى يومنا هذا، ويسعد المرء كثيراً حين يسمعها على موجات الإذاعات حين يزور السودان، لا سيما أغنيات الكينج محمد منير وشيرين، أظن أنه منه المنطقي أن نسمع في مصر التي يعيش فيها ملايين السودانيين أغنيات على السلم الخماسي الذي أبدعت في الترنم عليه شادية رحمة الله عليها في رائعتها –يا حبيبي عود لي تاني- التي كتبها فتحي قورة ولحّنها منير مراد.. وجميعهم من مصر إلا أنهم أبدعوا أيما إبداع في تلحين تلك الأغنية لتشبه تماما أغاني السودان، وقد غنتها شادية في حفل في الخرطوم - قبل أن يغنيها العملاق محمد منير- في أواخر الستينيات إلى جانب عدد آخر من أغنياتها الخالدة، ولن يفوتني أن أشير إلى تلك الأغنية الوطنية التي غنتها شادية لمصر والسودان معاً؛ لاستنهاض الهمم لمقاومة المستعمر وقد كان ذلك في مثل هذا الأيام تحديداً من العام 1952 بحسب ما يتوفر من معلومات، ومن كلمات تلك الأغنية التي طُعّمت بألحان على السلم الخماسي، والتي تجسد حواراً بين مصر والسودان: هيا يا سودان يا أخت الحمى فلنعش حرين أو نرضى الفناء.. أيها التاريخ سجل أننا ..قد سئمنا أن نرى ما بيننا، شبحا يفرقنا عن بعضنا . يبذر الأحقاد في أكبادنا، نحن شعب النيل قد أنجبنا.. توأمان لن يحولوا بيننا، آن يا أختاه وقت العمل.. هاك يا أختاه نور الأمل، أقدمي يا مصر يا عروس النيل.. أنت بنت النصر أنت فخرالجيل، أيها القلب الشقيق .. إن ما ضيك العريق .. نورنا عبر الطريق.( فكرت في أن أعنون مقالي ب: أيها التاريخ سجل أننا .. قد سئمنا أن نرى ما بيننا) وكأن هذه الكلمات تحاكي واقعنا المرير اليوم وتدعو الأشقاء إلى نبذ الفرقة، والاتحاد في وجه التحديات السياسية والاقتصادية والتنموية.
بدلاً من التراشق عبر وسائل الإعلام والهمز واللمز، وشحن نفوس الشعوب، لنفعّل أدوات السلام التي ركز عليها الرئيس عبد الفتاح السيسي جزاه الله كل خير، حتى تفوت الفرصة على كل من يريد بنا سوءاً، وهذه دعوة للمجلس الوطني للإعلام في مصر ولوزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم لتذليل العقبات في هذا الصدد، وهي أدرى الناس بقوة لغة الموسيقى في نشر الوئام والسلام.. ولنا عودة بإذن الله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة