قبل قرنين من الزمان كان مركز العالم في الشرق، الاقتصاد في الصين والهند، والقوة العسكرية في الدولة العثمانية،
ومع انطلاق الثورة الصناعية، وحركة الاستعمار، تحول المركز العالمي إلى الغرب الأوربي، وبعد الحرب العالمية الثانية انتقل إلى العالم الجديد، إلى أمريكا وارثة الإمبراطورية البريطانية. وكما كان الانتقال إلى عالم الغرب اقتصاديا، فإن الانتقال إلى عالم ما بعد الغرب حقيقة صنعها الاقتصاد قبل أن تقررها السياسة، ترسخت في الواقع قبل أن تنطق بها ألسنة السياسيين.
ولكي نعرف بدقة حركة مراكز الثقل الاقتصادي في العالم؛ فلننظر إلى الاقتصادات الأقوى عام 2050، سنجد أن الاقتصاد الأول في ذلك التاريخ سيكون الاقتصاد الصيني بناتج محلي إجمالي 58 تريليون دولار، يليه الهندي 44 تريليون دولار، ثم أمريكا 34 تريليون دولار، فإندونيسيا 10 تريليون دولار، وبعد ذلك تأتي كل من البرازيل ثم روسيا 7 تريليون دولار، ثم المكسيك واليابان والمانيا 6 تريليون دولار، وبريطانيا 5 تريليون دولار، وبعد ذلك تأتي تركيا وفرنسا، والسعودية، ونيجيريا، ومصر. هذه الأرقام تقول لنا أنه من ضمن أقوى عشرة دول اقتصاديا بإجمالي 183 تريليون دولار هناك 7 دول خارج العالم الغربي بإجمالي 138 تريليون دولار، وثلاث دول في العالم الغربي بإجمالي 45 تريليون دولار. أي أن نصيب الدول الغربية لن يتجاوز ربع الاقتصادات العالمية الكبرى.
هذه الحقائق بدأت تنعكس على الواقع الدولي الآن، على مستوى التحالفات الدولية، وإعادة ترتيب مناطق مختلفة من العالم، ومنها العالم العربي، وبدأت إرهاصات تنفيذها في منطقة الشرق الأوسط، وشرق أوربا، وشرق آسيا، وبدأت كل من روسيا والصين تتحركان بطريقة ثابتة وهادئة، ولكنها صارمة نحو تنفيذ هذا الهدف البعيد، وهو الانتقال إلى عالم ما بعد الغرب، وفي ظل كل هذا يثور السؤال الخالد …أين العرب من عالم ما بعد الغرب؟
الحقيقة أن ما يحدث في العالم العربي من تحولات كبرى هو ضمن العمليات المعقدة للانتقال إلى عالم ما بعد الغرب … الاندفاع العسكري الروسي في سوريا، ومع أوكرانيا، والتنسيق الروسي الصيني في الأمم المتحدة هو جزء أصيل من عملية الانتقال إلى عالم ما بعد الغرب، ونفس الأمر ينطبق على التحركات الصينية والروسية في أفريقيا، كلها تصب في هذا الاتجاه، إذن العالم العربي في قلب عملية الانتقال هذه.
وفي مقابل تلك الرؤية المستقبلية الصارمة، وما يصاحبها من تحركات واقعية نجد الدول العربية تتراوح ما بين نزاعات داحس والغبراء في الجاهلية، وبين صراعات ملوك الطوائف عند سقوط الأندلس، ومنها من عاد إلى التوحش الطائفي المتعطش للثأر، عاد العالم العربي قرونا لاستيراد أحقاد وصراعات من الأزمنة الغابرة، والانغماس في بحور دم كنا نظن أن تحريم الإسلام لها قد وصل الآذان واستقر في القلوب والعقول.
ما نحتاجه اليوم هو أولا: إعطاء الأهمية الواجبة للفكر والبحث وبيوت الخبرة لنتمكن من رصد التطورات والتحولات الحادثة حولنا، ويأتي على رأس ذلك الدراسات المستقبلية في كل المجالات والتخصصات، القادرة على تزويد صانع القرار برؤية، وسيناريوهات تعينه على أن يسلك الطريق الصحيح؛ قبل أن نتوه في صحراء التاريخ. وثانيا: الخروج من حالة الفردية المفرطة التي تسيطر على عملية صنع القرار في العالم العربي، لقد أثبت التاريخ الحديث أن مصائب العالم العرب تعم جميع بلدانه وشعوبه، فما يصيب دولة أو شعب سينعكس سلبا بالتأكيد على جميع الجوار. لذلك لا فكاك من العمل العربي المشترك، ولا سبيل إلا التعاون، والعمل معاً بصورة تحترم الخصوصيات والاختلافات. وثالثاً: إن سياسة المناكفات العربية بين العديد من الدول ستنعكس سلباً على الجميع. ورابعاً: إن المستقبل في الشرق، فهل أعددنا العدة لذلك؟ هل لدينا خطة لبناء شراكات طويلة المدى مع دول اسيا الكبرى والمهمة والواعدة؟ هل بدأنا إدخال اللغات الشرقية في مدارسنا؟ هل نفكر في الاستفادة من نظم الإدارة وطريقة تسيير الأعمال في شرق آسيا؟…أسئلة عديدة تثور في الذهن فقط عندما يتوجه العقل شرقاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة