إنه يوم التاسع من شهر ذي الحجة، "خير يوم طلعت فيه الشمس".
ففيه يجتمع المؤمنون على صعيد "عرفات" من كل حدب وصوب في مكان واحد وزمان واحد وبلباس واحد، لا فرق بينهم.
إذ تشرئب أعناقهم وتتوحد قلوبهم في مشهد عظيم، مُلبين لله تعالى النداء الأشهر "لبيك اللهم لبيك"، ورافعين أكفهم بالضراعة، طالبين المغفرة والرحمة وغفران ذنوبهم، حيث يتوافدون على ذلك الصعيد مُرتدين زي البياض في وقت تكتسي فيه الكعبة المشرفة بحُلتها الجديدة.
ومنذ شروق شمس ذلك اليوم، يتدفق الحجيج إلى صعيد "عرفات" لأداء ركن الحج الأعظم، وهو الوقوف بـ"عرفة"، بعد أن يقضوا في مشعر "منى" يوم التروية، ومع غروب شمسه يتوجهون إلى "مزدلفة" للمبيت فيها، ليعودوا إلى مشعر "مِنى" لرمي جمرة العقبة، ويطوفوا حول الكعبة المشرفة ويسعوا بين الصفا والمروة.
وعلى بعد آلاف الأميال، تهفو قلوب المؤمنين في كل مكان بتلك الشعيرة، وتتجه الأنظار نحو بيت الله الحرام، يراقبون مسيرة الحجاج ويتعبدون لله خلال هذا اليوم، سائلين إياه أن يتيح لهم أمل زيارة بيته الحرام، وإقامة شعيرة الحج، في مشهد يجسد مدى تلاحم المؤمنين وارتباطهم كحشد وتكتل واحد.
إن مكانة ركن الحج في وجدان المسلمين عالية، فهو الركن الخامس من أركان الدين الإسلامي، وشعيرة من شعائر الله العظيمة، لذا فإن الظروف الصعبة، التي فرضتها جائحة كورونا، كوفيد-19، لم تكن سهلة على الجميع، إذ دفع انتشار الجائحة عالميا إلى اقتصار حج هذا العام على 60 ألف حاج من الداخل السعودي، نظرًا لاستمرار تطورات الفيروس القاتل، بعد أن كان تجمع الحج هو الأكبر عالميا لتجمع بشري، ورغم ذلك فقد أثبتت المملكة العربية السعودية قدرة فائقة على تنظيم موسم الحج سنوياً بالجهود المخلصة للقائمين والعاملين، وحتى المتطوعين، واستمر الحج للسنة الثانية رغم استمرار الجائحة، ولم يتوقف أبدا، وقد توخّى المسؤولون الإجراءات الصحية للحيلولة دون انتشار المرض في العالم.
في جانب آخر، فإن الرسائل التي يحملها مشهد الحجيج من وحدة واتحاد بين جميع أطياف الأمة الإسلامية، تقدم درساً للقاصي والداني بضرورة التسامح والتآزر الإنساني، بعيداً عن الاستغلال الديني، تأسياً بوصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم بذلك، حين ألقى خطبته في حجة الوداع، وقال: "إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا".
إن يوم "عرفة" يذكرنا في كل عام بضرورة تجاوز الخلافات البينية والضغائن الشخصية، لننتقل إلى الإحسان في تعاملنا كأفراد ومجموعات، نتعاون جلباً للمنافع، ونتكاتف دفعاً للمظالم، بعيداً عن الانحيازات الدينية والطائفية، وذلك من أجل تحقيق الخير والأمان للبشرية جمعاء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة