الأمر المؤكد أن الذين خططوا لتلك الهجمات ونفذوها قد تجاوزوا الخط الأحمر و"قواعد الاشتباك" التي كانت قائمة وسارية منذ نشوب الأزمة
جاءت الهجمات العسكرية على معامل تكرير النفط في المملكة العربية السعودية في 14 سبتمبر الجاري لتمثل مرحلة جديدة في تطور الأزمة التي نشبت في أعقاب قرار الرئيس ترامب بانسحاب أمريكا من الاتفاق النووي الذي أبرم في 2015 بين القوى الكبرى وإيران. مرحلة جديدة لأنها هددت أمن الطاقة على مستوى العالم والذي تعتبره الدول الكبرى أحد العناصر الأساسية للأمن والسلم الدوليين، فلم تكن تلك الهجمات موجهة ضد السعودية وحسب، وإنما أثرت في انتظام إنتاج النفط وتصديره إلى العالم.
هذا النوع من الصراع أسماه بعض الباحثين بـ"حروب المناطق الرمادية" والتي يسعى فيها كل طرف لاستخدام مصادر قوته للضغط على الخصم، ولكن دون الدخول في الحرب. في هذا النوع من الصراعات يكون الفوز بالنقاط وليس بالضربة القاضية، ويكون في مواجهات جزئية ومحدودة وليس في معركة حاسمة.
ترتب على ذلك، أنه من الناحية الاستراتيجية فإن آثار تلك الهجمات تجاوزت حدود السعودية ومنطقة الخليج لتمس أمن الطاقة والأمن العالمي، فقد أدت إلى توقف تصدير خمسة مليون برميل نفط أي نصف إنتاج السعودية يوميا، وهو أكبر تهديد لأمن الطاقة منذ عام 1990 وغزو العراق للكويت. وخوفا من حدوث أزمة طاقة وارتفاع عشوائي في أسعار النفط، سارع ترامب بإصدار قرار يسمح باستخدام الاحتياطي الاستراتيجي الأمريكي من النفط لسد الفجوة التي نشأت بسبب الهجمات.
الأمر المؤكد أن اللذين خططوا لتلك الهجمات ونفذوها قد تجاوزوا الخط الأحمر و"قواعد الاشتباك" التي كانت قائمة وسارية منذ نشوب الأزمة. ومن المؤكد أيضا أن الأسلحة التي استخدمت سواء كانت طيارات مسيرة أو صواريخ هي إيرانية الصُنع، ولا يوجد مجال كبير للجدل في هذا الشأن.
فلا يوجد طرف عربي يمتلك القدرة التقنية على تصنيع تلك الأسلحة، وأن تحديد الجهة التي قامت بالتصنيع هو أمر ممكن فنيا. يبقى السؤال عن الجهة التي أصدرت الأمر بالهجوم والمكان الذي انطلقت منه.
على المستوى الإعلامي، تبنى الحوثيون قيامهم بهذه العملية، وتفاخروا بأداء "سلاح الطيران المسَير" التابع لهم، ولكن البيانات التي صدرت عنهم اتسمت بالالتباس والتناقض، فورد فيها مرة أن الهجوم تم بواسطة استخدام 10 طائرات مسيرة، ومرة أخرى أنه تم استخدام عدد من "الصواريخ النفاذة" حسب تعبيرهم .
وإلى حين إعلان نتائج التحقيق الدولي حول المكان الذي انطلقت منه الهجمات، يحتار المرء في تفسير صمت الدول الكبرى التي تجوب أقمارها الصناعية أجواء أراضي السعودية ودول الخليج وتصورها بشكل منتظم ودقيق. ومن الصعب تصور أن أداة الهجوم التي عبرت أجواء السعودية لم يتم رصدها وتصورها!!
والدليل على ذلك أن الولايات المتحدة كانت أول من بث الصور التفصيلية عن التدمير الذي أصاب معامل تكرير النفط والحرائق الضخمة التي نشبت فيها. وأيا كان الأمر، وبغض النظر عمن قام بتلك الهجمات أو المكان الذي انطلقت منه، فلا يمكن أن تكون قد تمت دون موافقة إيرانية ومعرفة مسبقة بها .
ورغم جسامة الحدث، فإنه لم يغير من أسس الاستراتيجية الأمريكية والإيرانية في إدارة الأزمة الراهنة، وجوهرها تحاشي الانخراط في مواجهة العسكرية بين الطرفين، واستخدام سائر أساليب الضغط للتأثير على موقف الخصم .
فالولايات المتحدة من ناحية، أظهرت دعمها السياسي والدبلوماسي للسعودية بإدانتها الحدث وإرسالها وزيري الخارجية والدفاع إلى الرياض، ووصف وزير الخارجية بومبيو الهجمات بأنها من "أفعال الحرب"، ثم الإعلان عن إرسال عدد من القوات الأمريكية لدعم منظومة الدفاع السعودي.
هذا في الوقت الذي حرص فيه المسؤولون الأمريكيون على أنهم لا يستعدون للحرب، فغرد الرئيس بأنه ما زال يفضل الوصول إلى حل سلمي للمشكلة، وصرح الجنرال دنفورد رئيس أكان الجيش الأمريكي بأن القوات المرسلة إلى السعودية هي للدفاع، وصرح قائد آخر بأن الهدف هو ردع إيران وليس مهاجمتها، وأن القصد منها هو دعم الاستقرار الإقليمي، وحرية المرور والتجارة في المنطقة. ترافق مع ذلك، الإعلان عن عقوبات اقتصادية أخرى شملت ثلاث هيئات كان منها البنك المركزي الإيراني .
أما إيران من ناحية أخرى، فقد رفضت الاتهامات الموجهة إليها بأنها وراء الهجمات مؤكدة أن السياسة الأمريكية هي مصدر عدم الاستقرار في المنطقة، وأن كل الأسلحة التي باعتها للسعودية لم توفر لها الأمن والدفاع. بل أشارت بعض التعليقات إلى أن إيران هدفت إلى إحراج ترامب وإظهار عجز نظم الدفاع الأمريكية على حماية حدود وأراضي السعودية .
وهدد قادة الحرس الثوري بأن أي هجوم عسكري –حتى إن كان محدودا- سوف يتحول إلى حرب شاملة وأن كل القواعد والسفن الأمريكية في الخليج هي في مرمي الصواريخ الإيرانية.
وبعد شهور من اندلاع الأزمة الراهنة بين أمريكا وإيران فإن المتابع لتطور أحداثها ووقائعها يلاحظ تباين تصريحات المسؤولين على الجانبين بين فترة وأخرى وبين مسؤول لآخر. ففي بعض الأحيان تعطي الانطباع بأن نذر الحرب قد تكاثرت، وأن المواجهة العسكرية على الأبواب، وفي أحيان أخرى تشير إلى إمكانية حدوث المفاوضات والوصول إلى حل سلمي دون قتال.
ويكفي في هذا الشأن، متابعة التصريحات الأمريكية المختلفة خلال انعقاد مؤتمر الدول السبع الكبار في فرنسا وحضور وزير الخارجية الإيراني، فقد أنكر بعض المسؤولين الأمريكيين معرفتهم بدعوته للحضور ثم اتضح بعد ذلك أن الرئيس الفرنسي ماكرو كان قد أحاط ترامب بهذا الأمر.
نجد هذا التباين أيضا في تصريحات الرئيس ترامب ما بين تقديره "للشعب الإيراني وقدراته" وأنه لا يسعى إلى تغيير شكل النظام السياسي في إيران، والهجوم العنيف على هذا النظام واتهامه إياه بالديكتاتورية وقمع إرادة الشعب بالقوة، وتهديده بأن أي حرب شاملة بين البلدين سوف تعيد إيران إلى "العصر الحجري".
الرئيس ترامب لا يريد الذهاب إلى حرب ضد إيران أو غيرها، فقد وعد الأمريكيين في برنامجه الانتخابي بأنه سوف يقلل من الانخراط العسكري الأمريكي في حروب لا نهاية لها، وهو يبدأ حملته الانتخابية لفترة رئاسية ثانية ولا يرغب في أن يقع ضحايا ومصابون أمريكيون في مثل تلك الحروب .
تدرك إيران ذلك جيدا وتقوم برفع نبرة تهديداتها ضد أمريكا اعتمادا على ذلك.
نستطيع أن نفهم ديناميات هذه الأزمة بأن نضعها في سياق أكبر وهو مفهوم " الصراع الممتد" بين البلدين، فالأزمات بين أمريكا وإيران بدأت منذ سقوط نظام الشاه في عام 1978، وأحداث اقتحام السفارة الأمريكية في طهران، ثم الحرب العراقية الإيرانية، واعتبار إيران راعية للإرهاب، وأنها المصدر الأساسي لعدم الاستقرار في الخليج والشرق الأوسط.
وهناك من ناحية أخرى، تطلع الشركات الأمريكية للاستثمار والتجارة في السوق الإيراني الكبير، والحصول على نصيب أكبر من الصناعات المتعلقة بالنفط الإيراني. ومعنى هذا أن العلاقات بين أمريكا وإيران لا ترتبط بمنطقة الخليج وحسب، وإنما لها أبعادها الثنائية المباشرة من ناحية، وأبعادها المتعلقة بدور إيران في مناطق إقليمية أخرى كوسط آسيا وبحر قزوين، وذلك بحكم موقعها وتاريخها.
هذا النوع من الصراع أسماه بعض الباحثين بـ"حروب المناطق الرمادية" والتي يسعى فيها كل طرف لاستخدام مصادر قوته للضغط على الخصم، ولكن دون الدخول في الحرب. في هذا النوع من الصراعات، يكون الفوز بالنقاط وليس بالضربة القاضية، ويكون في مواجهات جزئية ومحدودة وليس في معركة حاسمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة