بعد طول تأمل نستطيع أن نقول إن أزمة مصر الحقيقية هي أزمة ثقافية، تنعكس سياسياً بحكم أن السياسي إنسان مصري
إن التأمل في حالة المجتمع المصري بعد 2011 يدفع إلى التساؤل حول الجذور الحقيقية للأزمات والمشكلات التي يمر بها هذا المجتمع المعقد المتشابك الذي يرقد على طبقات ثقافية متعددة تجعل من المستحيل التفكيك والفرز للوصول إلى إجابات حقيقية وصادقة للتحديات والمشكلات. ولعل السؤال المنطقي الأول الذي يرد على الذهن هو: هل التحديات التي تواجهها مصر ثقافية؟ أم سياسية؟ أم كلتاهما معاً؟
وبعد طول تأمل نستطيع أن نقول إن أزمة مصر الحقيقية هي أزمة ثقافية، تنعكس سياسياً بحكم أن السياسي إنسان مصري، وأن حلول هذه الأزمة تأتي كذلك من السياسة، أو من خلال سياسة ثقافية جديدة تعيد تشكيل الثقافة المصرية، وتنقيها من كل الموروثات السلبية التي لم تعد تناسب العصر، وأصبحت تعيق حركة الإنسان والمجتمع في مصر، وتعيد إنتاج الأزمات والمشكلات.
نحن أمام رؤيتين للدولة ودورها؛ رؤية جهاز الدولة الجديد، ورؤية الشعب القديم، ولا حل لفك هذا الاشتباك بين الرؤيتين إلا بثورة ثقافية عميقة على الجانبين حتى يتحقق التواصل، ويتوحد طريق السير إلى المستقبل.
وفي هذه السطور سوف نركز على قضية واحدة وهي رؤية الإنسان المصري لدور الدولة ووظائفها، وعلاقة ذلك بدوره هو ووظائفه، ومسؤوليات كل من الدولة والمواطن تجاه حياة المواطن نفسه. وللحقيقة والتاريخ يجب أن نؤكد بداية أن نظم الحكم المتعاقبة على مصر قد أربكت تفكير الإنسان والمجتمع حول هذه القضية الجوهرية، وتقلبت من الضد إلى الضد في فترات زمنية قصيرة، ففي جيل واحد يتحول دور الدولة من الضد إلى الضد، وتظل الثقافة كما هي، لأن التحولات السياسية من طبيعتها السرعة والتغيير، لأنها تأتي من خلال قرارات وقوانين، أما التحولات الثقافية فتحتاج إلى أجيال؛ لأنها تنتج عن عملية تنشئة وتربية طويلة المدى، يتم خلالها غرس القيم الثقافية الجديدة، أو تعديل وتغيير القيم الثقافية المتوارثة في عقول وقلوب النشء من خلال عملية تربية تحتاج إلى أجيال ليتحقق التغيير المنشود.
فحتى قيام ثورة 1952 كان دور الدولة هو توفير المجال العام للفرد والمجتمع ليقوم بوظائفه الحياتية، ويحقق أحلامه وطموحاته، ولم تكن الدولة مسؤولة عن توفير كل احتياجات الفرد من طعام وصحة وتعليم وطاقة ومواصلات، بل ترك ذلك للمبادرات المجتمعية سواء في صورة مشروع اقتصادي خاص، أو عمل خيري، أو من خلال تأسيس الأوقاف التي تحافظ على استدامة الخدمات والوظائف. وكان على الإنسان أن يعمل ويكد من أجل تحقيق احتياجاته وأحلامه، وما على الدولة إلا أن تضمن حيوية الاقتصاد، وتوفر المجال العام القانوني والسياسي الذي يشجع على المبادرات الاقتصادية الخاصة، والعمل الخيري، وتضمن حقوق الأفراد على اختلاف مواقعهم من خلال بنية قانونية صارمة تحول دون الظلم وتمنع الفساد.
وبعد 1952 انقلب الحال تماما، وتم القضاء على المشروع الخاص، والعمل الخيري، وتم كذلك تأميم الأوقاف، ومنعت المبادرات الفردية، وأصبحت الدولة مسؤولة مسؤولية كاملة عن كل احتياجات الفرد والمجتمع، وتحول الأفراد إلى عيال على الدولة، أو أطفال يعيشون على نفقة أبيهم الذي هو الدولة، وصارت الدولة تقوم بدور رب الأسرة، والشعب في موقع الأبناء والبنات؛ يسمع ويطيع، ثم يتوقع أن تحقق الدولة كل مطالبه من روضة الأطفال حتى توفير الوظيفة بعد التخرج، ومن حليب الأطفال حتى المقبرة.
ثم جاءت حقبة السبعينيات لتحاول أن تعيد الحال إلى ما قبل 1952، ولكن بطريقة مشوهة جدا؛ ركزت على التجارة والانفتاح الاستهلاكي، فظل الإنسان المصري يعيش عالة على الدولة، ويعمل جاهداً على الالتفاف عليها لتحقيق مكاسب شخصية من خلال التهريب والفساد والغش، ونهب المال العام، وواصل نظام الرئيس مبارك على نفس النهج؛ يخلط بين النظامين على المستوى السياسي: نظام ما قبل 1952 ونظام ما بعدها، دون أن يبذل أي جهد لتغيير الثقافة، أو إعادة توجيهها إلى أي من التوجهين.
وجاء التغيير الذي حدث في 2011 ليربك ويخلط كل الأوراق، ويعيد تشبيك جميع الخيوط، ويعيد إحياء كل الثقافات منذ دخول الإسلام إلى مصر حتى اليوم، فظهرت تكوينات وأشكال ثقافية تعبر عن تناقضات التاريخ المصري، وكان الموقف من الدولة في القلب منها، فالشعب الذي خرج لإسقاط النظام مرتين في 2011 و2013، لم يستوعب أن ممارسة هذا النوع من الحرية والعمل السياسي لا يتسق مع وجود دولة تطعم وتسقي وتربي المواطن، وإنما يتطلب وجود دولة تفسح الطريق للمواطن للعمل والإنتاج؛ من خلال توفير بنية تحتية جاذبة للاستثمار، وفتح المجال للمشروعات الخاصة لخلق فرص العمل المطلوبة، وتوفير المناخ للعمل الخيري، وإعادة إحياء الأوقاف التي صارت لغة للتنمية المستدامة في جميع بقاع الأرض. هذا الفهم لدور الدولة ووظائفها لم يدخل الثقافة المصرية، فالشعب أراد إسقاط نظام لم يقم بدور رب الأسرة بالشكل المطلوب، لإيجاد نظام آخر يقوم بدور الأب الحنون الذي يوفر كل مستلزمات الحياة لأولاده.
وفي المقابل كانت الدولة في مصر بعد 2013 تعمل على طريقة محمد علي باشا، تركز على البنية التحتية، وتبني دولة جديدة موازية للدولة القديمة، ولم يكن في منظومتها الثقافية أن تركز على توفير الاحتياجات الأساسية بالشكل الذي ترضى به الثقافة التي تشكلت بعد 1952، لذلك نحن أمام رؤيتين للدولة ودورها؛ رؤية جهاز الدولة الجديد، ورؤية الشعب القديم، ولا حل لفك هذا الاشتباك بين الرؤيتين إلا بثورة ثقافية عميقة على الجانبين حتى يتحقق التواصل، ويتوحد طريق السير إلى المستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة