استطاع القيصر أن يقوم باستئناس وترويض أردوغان، السلطان الخيبان،
في لقاء سنوي مفتوح مع المواطنين الروس عقده الرئيس فلاديمير بوتين يوم الجمعة 2 مارس 2018، سأله أحد الحضور عن أكثر الحوادث تأثيرا في حياته، فأجاب: انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 كان الحادث الذي زلزل حياتي.
هكذا يفكر ويتصرف رجل المخابرات السوفيتية الأبرز في أوروبا عشية سقوط الاتحاد السوفيتي وتفككه، وهكذا يجب أن نحلل سلوكياته السياسية واستراتيجياته في المنطقة العربية، وخصوصاً في سوريا.
بعد ثلاث سنوات من التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا نجح القيصر الروسي الصاعد في أن يحوّل سوريا إلى رقعة شطرنج كبيرة، لعب عليها مع جميع القوى السورية والإقليمية والعالمية، وسخّرها جميعاً لخدمة مشروعه، وأوهمها جميعاً أنها تخدم أهدافها، وتحقق مكاسب وإنجازات، وتركها تأكل بعضها بعضاً، وينهي بعضها بعضاً، وفي كثير من الأوقات اكتفى القيصر بمتعة المشاهدة، وهو يرى خصومه يتطوعون للقضاء على أنفسهم بأيديهم في صراعات بينية، يساعد هو في تهيئة المسرح، وإفساح المجال، وتوفير الأجواء المناسبة لأحدهما ليقضي على الآخر.
على مدى السنوات الماضية نجح القيصر، ببراعة تستحق التقدير، في طحن وهرس الملا بكاكا بالسلطان، وتحويلهم جميعاً إلى أدوات لتنفيذ خطط روسيا بعيدة المدى، والنتائج الواقعية تقول إن هذا ما قد تحقق في الواقع، فصارت طموحات أردوغان حماية حدوده بدلا من الاستيلاء على الدولة السورية وتحقيق حلم العثمانية.
ترك القيصر الصديق الكردي (وفي اللغة الكردية كاكا تعني الصديق) يحارب داعش لأكثر من عامين، ويتوسع في شمال، وشمال شرق سوريا، وفتح لهم المجال، ولم يعق حركتهم، ودفع الأسد لعدم التعرض لهم، ومنع إيران ومليشياتها الطائفية من استهدافهم، حتى نجحت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في تحرير كل الشمال السوري الملاصق للحدود التركية من الجماعات الإرهابية، وبذلك ساعدت في التخلص من داعش وأخواتها، ومثلت حاجزاً منيعاً لمنع دخول المقاتلين الأجانب من تركيا إلى سوريا، وأوقفت النزيف الاقتصادي السوري لمصلحة تركيا ممثلا في تهريب النفط، وبذلك استطاع الأكراد تحقيق هدفين كبيرين؛ هما: التخلص من داعش، وتحجيم الدور التركي في سوريا، وإرباك تركيا ذاتها، من خلال وجود قوات كردية على حدودها من الممكن أن تمثل تهديداً للأمن القومي التركي.
وفي ظل حرب ضروس استُخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة الروسية الجديدة، كان مركز حميميم للمصالحات يقوم بدور أخطر من الحرب، من خلال تحقيق مصالحات محلية توفق أوضاع المعارضين للأسد، وتحولهم من داعمين للمعارضة إلى داعمين للدولة الثورية، ووصل عدد القرى والبلدات التي دخلت في المصالحة ما يقارب ثلاثة آلاف بلدة وقرية وتجمع سكاني، وكان من ضمن هذه المصالحات إخراج المسلحين إلى محافظة إدلب المجاورة لتركيا، لتحويل هذه المحافظة إلى بؤرة لتجميع جماعات متنافرة، ستكون نهايتها إما أن يقتل بعضها بعضاً، وإما أن يتسربوا إلى الداخل التركي.
استطاع القيصر أن يقوم باستئناس وترويض أردوغان، السلطان الخيبان، ووظّف في ذلك المصالح التركية الاقتصادية مع روسيا ممثلة في السياحة الروسية التي تعد مصدر دخل أساسيا لتركيا، واستيراد الحاصلات الزراعية من تركيا، وخط الغاز الطبيعي المسمى بالسيل التركي.. إلخ، تم توظيف كل ذلك من خلال استراتيجية شد الحبل، أو الشد والجذب، لترويض السلطان في سوريا، ودفعه للتخلي عن الدور الذي كان يقوم به وعن أتباعه من الجماعات المسلحة ذات الخلفية الإخوانية، بل وصل الأمر إلى أن أردوغان تحول إلى بيدق في يد القيصر يستخدمه لإخضاع وترويض المعارضة السورية وجرها إلى أستانة، ودفعها للقبول بما تفرضه روسيا حتى لم يعد لديها أي ورقة سياسية حقيقية.
وفي سياق تحريكه للسلطان الأحمق، نجح القيصر في إعطائه الضوء الأخضر لدخول عفرين فسحب القوات الروسية منها، وترك السلطان يخلصه من كاكا صديق الأمريكان، وتحول كاكا والسلطان إلى عدوين، سوف يتقاتلان حتى ينتهي القيصر من ترتيب باقي المناطق السورية، وتنظيفها من كل الخصوم، وما عملية عفرين إلا كارثة على أردوغان وعلى الأكراد، سيخرج منها الاثنان خاسرين، وستكسب الدولة السورية من خلال التخلص من التقسيم والفيدرالية التي كان يعد لها أصدقاء قوات سوريا الديمقراطية وداعموها وممولوها، وسيخرج منها السلطان الأحمق بكارثة ستنتقل إلى الداخل التركي في الجنوب الشرقي، وسيعاني الأمرين من حرب عصابات ستطول، بدأها أردوغان في عنجهية حمقاء بحرب على عفرين، ولن تنتهي.
أما الملا الطائفي المتذاكي الذي يظن أن العالم العربي قد صار لقمة سائغة يبتلعها كيفما شاء من العراق إلى سوريا إلى لبنان واليمن، فقد استثمر كل ما يملك في سوريا، ووظّف كل المشاعر الطائفية، وحشد كل مرضى التاريخ من باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان، وفي النهاية ستكون غاية حلمه أن تقف معه روسيا في مواجهة الغرب، كما حدث طوال المفاوضات المتعلقة بالبرنامج النووي، وسيخرج من سوريا بلا عير ولا نفير، سيخرج هو وأحزابه الطائفية ومليشياته لتنفرد روسيا بالمشهد السوري، لتدشين نظام علماني لا مكان فيه للأحزاب الدينية، ولا للمليشيات الطائفية.
وقد بدأت إرهاصات إخراج إيران من المعادلة السورية في مفاوضات إعادة الإعمار السورية التي ستقوم بها شركات روسية، وقد تزامن ذلك مع فوز بوتين بفترة رئاسية جديدة عنوانها دعم الاقتصاد الروسي، والتركيز على المشاكل الداخلية، وهنا لن تترك روسيا التي استثمرت كل ما تملك سياسياً واستراتيجياً ودولياً وعسكرياً، للحفاظ على وحدة سوريا وعدم سقوطها مثل ليبيا والعراق.. لن تسمح روسيا لإيران بالقيام بأي دور حيوي في المشهد السوري، وستتم مقايضة سوريا بالملف النووي الإيراني الذي أعيد فتحه من جديد، وستكون إيران في حاجة لإرضاء روسيا للوقوف معها في معركة طويلة قادمة في المجتمع الدولي خصوصاً الأمم المتحدة، وفي سبيل ذلك سيرضخ الملا الطامع في سوريا.
إن خلاصة المشهد السوري في مارس 2018 تقول لنا إنه على مدى السنوات الماضية نجح القيصر، ببراعة تستحق التقدير، في طحن وهرس الملا بكاكا بالسلطان، وتحويلهم جميعاً إلى أدوات لتنفيذ خطط روسيا بعيدة المدى، والنتائج الواقعية تقول إن هذا ما قد تحقق في الواقع، فصارت طموحات أردوغان حماية حدوده بدلا من الاستيلاء على الدولة السورية وتحقيق حلم العثمانية الجديدة من سوريا كما تحقق الحلم القديم من سوريا 1516م، وتحول طموح الأكراد من إنشاء فيدرالية كردية من كردستان العراق إلى البحر المتوسط، إلى مجرد حلم بالعودة إلى بيوتهم، والمحافظة على أملاكهم الشخصية من نهب الجيش السوري الحر المستعبد من أردوغان، الذي تحول إلى مجموعة لصوص بمجرد دخول عفرين.
وسيتحول حلم إيران في سوريا من كون سوريا واصلة تربط العراق بلبنان بالبحر المتوسط، إلى عربون صداقة مع روسيا لمواجهة الهجمة الغربية الجديدة التي يقودها ترامب ضد إيران وأذنابها. لقد تحول الجميع إلى بيادق في رقعة شطرنج القيصر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة