اقتصاد الأرجنتين.. أزمات متلاحقة ومستقبل غامض
المشكلة الاقتصادية في الأرجنتين هي التحدي الأكبر للرئيس الجديد ذي التوجه اليساري الثوري الذي اختلطت الآراء بشأن مستقبل أداء حكومته.
تتطلع الأنظار وتتزايد الآمال لدى الملايين من الشعب الأرجنتيني حول تحسن مؤشرات الأداء الاقتصادي الذي يواجه أوضاعا صعبة من بداية القرن الحالي؛ ومبعث هذه الآمال انتخاب رئيس جديد للبلاد هو اليساري الثوري ألبرتو فرنانديز في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية والتي تنافس فيها مع الرئيس اليميني السابق ماوريسيو ماكري وجرت في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019 وبفارق وصل إلى أكثر من 8% من أصوات الناخبين.
- استقالة وزير مالية الأرجنتين بعد أسبوع اقتصادي كارثي
- أسهم وسندات الأرجنتين تتعافى من آثار هزيمة انتخابية للرئيس ماكري
وما يزيد من بورصة الآمال تأكيد الرئيس الجديد في برنامجه الانتخابي على عنايته بتنفيذ برامج وخطط جديدة ومستحدثة للتنمية الاقتصادية تتجاوز سلبيات خطط وبرامج الرؤساء السابقين للأرجنتين من ذوي التوجه اليميني واليساري الذين تناوبوا على حكم البلاد من عام 2000 وحتى الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
- سياسات اقتصادية حكومية متخبطة بين اليمين واليسار
انعكست حالة عدم الاستقرار السياسي التي سادت الأرجنتين خلال عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين -نتيجة كثرة الانقلابات العسكرية وتفشي الفساد في المؤسسات الاقتصادية الكبرى للملوكة للدولة– سلبا على الأوضاع الاقتصادية التي شهدت تباطؤا حادا في معدل النمو الاقتصادي؛ وتردي حالة المرافق الرئيسية من نقل وتعليم وصحة؛ علاوة على تدني أرباح الإنتاج الزراعي والحيواني؛ مما أدى إلى قيام الحكومات الأرجنتينية المتعاقبة بالاستدانة من الخارج لتدبير التمويل اللازم والضروري للإنفاق العام؛ وهو الأمر الذى أدى بحلول عام 2019 إلى انفجار مشكلة " الديون الخارجية " التي وصل متوسطها إلى نحو 132 مليار دولار تقريبا في ظل تثبيت سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار.
وتلازم مع ما سبق انخفاض تدفقات النقد الأجنبي، والانتهاء من عملية بيع وخصخصة أغلب الشركات الوطنية، وارتفاع معدلات الإنفاق الحكومي وتزايد خروج رؤوس الأموال الأجنبية والوطنية من السوق، وضاعف من هذه التداعيات الاقتصادية تراجع النمو الاقتصادي في كل من البرازيل والمكسيك وفنزويلا وشيلي "الشريك التجاري الأكبر للأرجنتين"، أدت العوامل السابقة جميعا إلى عجز حكومات الأرجنتين في تلك الفترة عن سداد أقساط الديون والفوائد الخاصة بأذون الخزانة.
وتفاقمت حدة المشكلة الاقتصادية في الأرجنتين إبان تولى الليبرالي ورجل الأعمال موريسيو ماكري مقاليد الحكم في مايو/ أيار 2015 الذي أعلن أمام البرلمان في فبراير/شباط 2016 بنبرة حزينة ومنكسرة: "نحن دولة مفلسة"، وتعهد بوضع خطة للإصلاح الاقتصادي؛ غير أن الأزمة الاقتصادية أخذت منحى جديدا في أبريل/ نيسان 2018 حيث ارتفع معدل التضخم من 22% في نهاية عام 2017 إلى 40% في أبريل/ نيسان 2018 مع عجز في الموازنة.
وقد ضاعف من الآثار والتداعيات السلبية للأزمة قيام البنك المركزي الأرجنتيني بزيادة أسعار الفائدة عدة مرات خلال شهر واحد حيث ارتفعت من 27‚25% ثم إلى 25‚33 % وإلى نحو 40% في نهاية عام 2018 ، وذلك بهدف كبح وخفض معدل التضخم لـ25% في نهاية مايو/أيار عام 2018، وهو الأمر الذى لم يتحقق ودفع الحكومة الأرجنتينية مرة أخرى لطلب المساعدة من صندوق النقد الدولي الذى قدم قرضا جديدا للأرجنتين قيمته 57 مليار دولار بهدف تأمين استقرار ثالث أقوى اقتصاد في أمريكا اللاتينية وتعزيز احتياطات البلاد من النقد الأجنبي، وتأمين استقرار سوق متقلبة خسرت فيها العملة الوطنية "البيزو" 35% من قيمتها، مقابل تعهد بوينس آيرس بإجراء إصلاحات تهدف إلى خفض العجز في الميزانية من خلال خفض النفقات العامة لدعم الميزانية بحلول عام 2020.
ووفقا للاتفاق مع الصندوق تسلمت الحكومة الشريحة الأولى من هذا القرض والبالغة نحو 15 مليار دولار في 20 يوليو/ تموز 2018 بهدف استخدامه في دعم الموازنة، واستلمت الشريحة الثانية البالغة 35 مليار دولار وقامت باستخدامها كاحتياطي من العملة الأجنبية في نهاية 2018؛ وذلك في مقابل قيام حكومة الأرجنتين بتطبيق حزمة من الإصلاحات الماليَّة الخاصة بالضوابط المالية للموازنة العامة منها: تحرير سعر الصرف وإنهاء موضوع إفلاس الدولة وخفض الضرائب على الصادرات، ورفع القيود على حركة رأس المال، وخفض الدعم الذي تقدمه الحكومة على الخدمات الأساسيَّة من كهرباء ومياه وزيادة الضرائب، وهى إجراءات تقشفية قاسية كان لها تأثير سلبي على محدودي الدخل، وبالتالي ارتفاع عدد الحاصلين على مساعدات اجتماعية؛ علاوة على ارتفاع معدل الفقر في الأرجنتين من 29٪ إلى 35٪ خلال سنوات حكم ماكري من 2015 - 2019 بزيادة مليوني شخص؛ كما ارتفع التضخم بمعدل 54٪ خلال الشهور العشر الأخيرة، وزيادة الأسعار بمعدل 5٪ شهرياً مما أدى إلى انخفاض القوة الشرائية للعملة وزيادة معاناة ملايين المواطنين.
- صندوق النقد الدولي يمنح الأرجنتين 5.4 مليار دولار جديدة
- الأرجنتين تتفوق على هدف "عجز الموازنة" المتفق عليه مع صندوق النقد
- اقتصاد الأرجنتين.. مخاوف وآمال
عقب إعلان نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بالأرجنتين في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المنقضي والتي أسفرت عن فوز مرشح يسار الوسط ألبرتو فرنانديز بنحو 48 % من أصوات الناخبين بينما لم تزد نسبة منافسة ماورويسيو ماكرى على 4‚40% من إجمالي الأصوات؛ اتفقت جميع الآراء والتعليقات الصادرة عن المؤسسات الدولية والخبراء والمتخصصين على أن المشكلة الاقتصادية في الأرجنتين هي التحدي الأكبر للرئيس الجديد ذي التوجه اليساري الثوري الذى اختلطت الآراء بشأن مستقبل أداء حكومته بين التفاؤل والحذر والخوف الشديد؛ ولكل منهما دوافعه وأسانيده.
فوفقا لتيار المشككين والمتخوفين؛ فإن الإدارة الحقيقية لمقاليد الحكم ستكون في يد كريستينا كوشنر نائب الرئيس الحالي والرئيس الأسبق للأرجنتين في الفترة بين 2007 و 2015 والتي تخضع للتحقيق والمحاكمة في أكثر من 11 قضية فساد إبان فترة حكمها؛ علاوة على احتمال تزايد حدة المشكلة الاقتصادية في عهده، وهو ما أوضحه بجلاء تحول المشهد الاقتصادي في البلاد عقب نجاحه في الجولة الأولى من الانتخابات إلى صورة ضبابية بامتياز أبرز معالمها تهاوي سوق المال؛ حيث سجل مؤشر الأسهم الرئيسي المقَوَّم بالدولار 48% من قيمته في جلسة اليوم التالي بعد الانتخابات؛ وفقد العملة "البيزو الأرجنتيني" الكثير من قيمتها حيث شهدت خسائر أسبوعية بنحو 6‚17% قفزت إلى ما يقارب من 39% من قيمته منذ بداية العام؛ وخروج العديد من المستثمرين من السوق المحلي؛ وارتفاع التضخم إلى ما يقارب 75% من قيمته في بداية 2019 خوفا من قيامه بإلغاء أو تعديل برنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي في 2018، والذي بموجبه حصلت الأرجنتين على قرض بقيمة 57 مليار دولار لمدة 3 سنوات.
كما يستند أنصار هذا التيار في أسانيدهم إلى تقارير مؤسسات التقييم الاقتصادي الدولية المعروفة الخاصة برصد ومتابعة أداء اقتصاد الأرجنتين في المستقبل، حيث أعلنت وكالتا التصنيف الائتماني "فيتش" و" ستاندارد آند بورز" في أغسطس/آب 2019 تخفيض الدين السيادي للأرجنتين من (B) إلى (CCC) وفقا لوكالة فيتش، أما الثانية فقد خفضت التصنيف من (B) إلى (-B)، وأرجعت الوكالتان ذلك إلى تعديل شروط التمويل بحدة والتدهور الحادث في بيئة الاقتصاد الكلي الذي يزيد من احتمال التخلف في تسديد الدين السيادي أو إعادة هيكلة هذا الدين بشكل أو بآخر حيث أعلنت فيتش توقعها لارتفاع الدين الحكومي لما يقارب 95% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2019.
كما أنه وفقًا لتقديرات مؤسسة "آي إتش إس ماركت" للأبحاث، فإن احتمالية التعثر في سداد الديون السيادية لأجل خمس سنوات تصل إلى 5‚82%، بينما احتمالية التخلف عن سداد الديون السيادية لأجل عام واحد تصل إلى 55%؛ حيث تحتاج الأرجنتين 30 مليار دولار على الأقل في عام 2020 لسداد ديونها.
ووفقًا للمعطيات السابقة يتوقع أنصار التيار المتشائم أن الأرجنتين في ظل الرئيس الجديد سوف تكون غير قادرة على سداد نصف ديونها على الأقل بحلول العام القادم، لاسيما في ظل تراجع الاستثمارات والمصداقية في السوق، الأمر الذي سيؤدي بالقطع إلى انكماش الاقتصاد خلال السنة المقبلة على الأقل.
بينما يعلق تيار المتفائلين كثيرا من الآمال والطموحات على شخص وفكر الرئيس الجديد السيد فرنانديز والذى شغل منصب رئيس مجلس الوزراء للرئيس الراحل نستور كيرشنر، طوال فترة وجوده في منصبه من عام 2003، أي بعد عام من تخلف الأرجنتين عن سداد ديونها الخارجية واستمر في منصبه حتى عام 2007، بذل خلالها جهدا متميزا ومشهودا لإعادة التفاوض بشأن ديون الأرجنتين على أساس مستدام، حيث لم يقتصر الأمر على خفض الدين الخارجي من 140 مليار دولار إلى 65 مليار دولار فقط؛ ولكن حكومته حافظت أيضًا على تحقيق فوائض مالية أساسية خلال تلك السنوات وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي.
كما ربط هذا التيار بين انتخاب الرئيس الجديد وتحسن بعض المؤشرات الاقتصادية ومنها: تحقيق العملة والأسهم في الأرجنتين مكاسب قوية، حيث ارتفعت قيمة عملة البيزو بنحو 3‚1 % أمام الدولار لتصل إلى 1994‚59 بيزو، كما ارتفع مؤشر "مارفال" للأسهم الأرجنتينية بنحو 1% أو ما يوازي 315 نقطة ليصل إلى 3‚30312 نقطة.
يضاف لما سبق؛ تمتع الرئيس فرنانديز " بشخصية كاريزمية " حيث ينظر الكثيرون إليه باعتباره قوة موحدة تجمع القوى المؤيدة والمناهضة لما يسمى "البيرونية" التي يقصد بها " العدالة الاجتماعية"، لذا فإنه سيسعى إلى إعادة التفاوض بشأن قرض صندوق النقد ووضع سعر صرف تنافسي للبيزو مما يسمح للشركات الأرجنتينية "بالإنتاج من أجل التصدير"، وإلغاء الضرائب على الصادرات الصناعية والمبيعات الأجنبية للتكنولوجيا والخدمات القائمة على المعرفة.
ويدعم أنصار هذا التيار رؤيته ووجهة نظره بأن الموارد الحالية يمكن أن تساعد الرئيس فرنانديز؛ حيث يتوافر احتياطي مالي لدى البنك المركزي يصل إلى 66 مليار دولار منها 20 مليار دولار موارد حرة يمكن استخدامها لدفع قيمة أقساط الدين في الفترة المتبقية من العام الحالي، بما يتراوح بين خمسة وعشرة مليارات دولار، وأيضا أقساط الديون المستحقة في عام 2020 والتي تبلغ وفقا للبيانات الحكومية نحو 27 مليار دولار، وهو ما يترك رصيدا متبقيا لاحتمال استخدامه للتدخل في سوق العملات الأجنبية وتثبيت البيزو.
- الإصلاحات العاجلة للرئيس فرنانديز
وفقا للتحديات والأزمات الحادة التي يواجهها الاقتصاد الأرجنتيني على مدار أكثر من عامين، يتعين على الرئيس ألبرتو فرنانديز القيام بحزمة من الإصلاحات والتدابير العاجلة لوقف حالة التدهور والضعف المستمر في الاقتصاد الأرجنتيني والتي من أهمها:
* تنفيذ عدة قرارات لتنشيط الاقتصاد وتشمل: إلغاء القيمة المضافة على الأغذية الأساسية، وتقنين الإعفاءات الضريبية، وزيادة الإعانات للفقراء، وضخ مزيد من القروض للطلاب والشركات الصغيرة، كذلك تجميد أسعار الوقود والسلع الأساسية لمدة 3 أشهر على الأقل.
* تعزيز الثقة لدى المستثمرين الأجانب والمحليين في الاقتصاد الأرجنتيني؛ مع تفعيل القيود الرأسمالية لضمان استقرار العملة المحلية.
* تعديل برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يتم تطبيقه بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي بما يسمح بإعادة هيكلة الديون الخاصة بالدولة والتباحث مع الصندوق حول الشروط الخاصة بالبرنامج وإمكانية تمديد آجال تسديد الديون "توسيع آجال الاستحقاق".
* الحفاظ على الوصول إلى رأس المال الدولي والتنسيق مع مؤسسات تمويل التنمية الرائدة العاملة في المنطقة مثل مصرف التنمية التابع لأمريكا اللاتينية والكاريبي وبنك التنمية للبلدان الأمريكية وبنك التنمية الصيني، لوضع حزمة نمو معاكسة للدورات الاقتصادية من شأنها أن تشمل الاستثمار في البنية التحتية الصديقة للمناخ والشاملة اجتماعيا.
* استعادة ثقة السوق؛ من خلال العمل على تخفيض احتياجات التمويل على المستوى الفيدرالي؛ ووضع الدين العام على مسار تنازلي ثابت بما يضمن تحقيق توازن في الرصيد الأولي للحكومة الفيدرالية بحلول عام 2020، وحماية أضعف شرائح المجتمع من بعض آثار السياسات الاقتصادية وذلك بوضع وتنفيذ خطوات لتقوية شبكة الأمان الاجتماعي، بما في ذلك إعادة تصميم برامج المساعدات؛ والقيام بإجراءات لزيادة مشاركة النساء في سوق العمل مع الاستمرار في تخفيض معدلات الفقر، وإتاحة الاستقلالية المؤسسية والتشغيلية التي يحتاجها البنك المركزي لتحقيق أهداف السيطرة على التضخم بشكل فعال؛ والحد من انكشاف البنك المركزي لمخاطر الدين قصير الأجل المقوم بالبيزو "سندات"؛ وإعادة بناء الاحتياطيات الدولية وتخفيض تعرض الأرجنتين للضغوط على الحساب الرأسمالي؛ وتعزيز التوجه التصديري في السياسات التصنيعية مما يضاعف من جملة صادرات الأرجنتين الخارجية.
aXA6IDMuMTQxLjQ3LjE2MyA=
جزيرة ام اند امز