بات حزب العدالة والتنمية بعد نحو عقدين من انطلاق مسيرته أمام أزمة بنيوية مفتوحة، تتراكم يوما بعد آخر، بسبب تفرد أردوغان بقيادة الحزب.
بين فترة وأخرى، نشهد استقالات أو إقالات من الحزب، قادة ينفصلون، ويؤسسون أحزابا جديدة، كما هو حال أحمد داود أوغلو الذي أسس حزب المستقبل، وعلي باباجان الذي أسس حزب التقدم والديمقراطية، ومن ثم استقالة أو إقالة وزير المالية بيراءت ألبيرق صهر أردوغان، وصولا إلى أرينتش الذي كان دائما يشكل قطبا وازنا أمام أردوغان، إذ تقول تقارير إن ثقله في الحزب يقدر بنحو مئة نائب في البرلمان، حيث عمل رئيسا له بين عامي 2002 و2007 ، وهكذا بات حزب العدالة والتنمية بعد نحو عقدين من انطلاق مسيرته أمام أزمة بنيوية مفتوحة، تتراكم يوما بعد آخر، بسبب تفرد أردوغان بقيادة الحزب، لتطرح أسئلة كثيرة عن مستقبله، وعن كيفية تصرف أردوغان في مواجهة التحديات التي تعصف بحزبه ونظامه.
من دون شك، شكّلت خسارة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية الأخيرة نكسة كبيرة له، ومؤشرا إلى مسيرة تراجعه المستمر، وفقدانه لقادته الأساسيين، فالحزب الذي كان مرتاحا منذ تأسيسه عام 2001، بات يعاني من الانقسامات والانشقاقات والخلافات، فيما أحزاب المعارضة التي كانت منقسمة ومشتتة وضعيفة باتت تتفق وتتوحد وتستحوذ على مزيد من عناصر القوة، وتفوز بالانتخابات، وتتجهز لمرحلة جديدة. فما الذي أوصل الأمور إلى هذا المنعطف الحساس؟
ثمة من يوجه المسؤولية المباشرة لأردوغان، إذ منذ وصوله إلى الرئاسة عام 2014، ومن ثم الانتقال إلى النظام الرئاسي عام 2017، يقول هؤلاء إن أردوغان قاد الحزب بعقلية الرجل الواحد، ولم يسمع لدعوات المراجعة، ولم يتقبل الانتقادات، ولم يقم بإصلاحات، وأبعد المستشارين الناجحين عن الدائرة الضيقة للحكم، ولم يتبقَ من حوله سوى المطبلين، وهكذا بات العقل الاقتصادي الذي كان وراء النهضة الاقتصادية للبلاد علي باباجان ينافس أردوغان على السلطة، وبات المفكر الأكاديمي ومنظر الحزب أحمد داود أوغلو منافسا آخر له، ويشن الهجوم تلو الهجوم على أردوغان وطريقة إدارته للحكم، وسط تواصل حملة الاعتقالات المستمرة منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة المزعومة عام 2016، وتواصل الحرب ضد حزب العمال الكردستاني، وسط حملة مستمرة ضد قيادات وأعضاء حزب الشعوب الديمقراطية، حيث باتت تهمة الإرهاب جاهزة لكل مَن ينتقد أردوغان ويعارضه، وباتت صورة تركيا في الخارج صورة الدولة الديكتاتورية. وفي الخارج باتت تركيا تغرق في مشكلات لانهائية، توتر مع الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، تورط في حروب في سوريا والعراق وليبيا والقوقاز، وسط أزمات مالية ومعيشية واقتصادية تتفاقم في الداخل، أثرت على شعبية أردوغان، وهو ما يضع الحزب الحاكم وزعيمه أمام تحديات غير مسبوقة.
أرينتش الذي استقال من المجلس الاستشاري لأردوغان دون أن يشير إلى استقالته من الحزب الحاكم حيث باتت مرجحة، كانت علاقته على الدوام مع أردوغان تحمل طابع الخلاف المضمر، إذ سبق وأن نشب خلاف بينهما على خلفية الموقف من عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني بين عامي 2013 و2015، ولا سيما بعد رفض أردوغان تشكيل لجنة لمتابعة عملية السلام مع الحزب، واليوم تكرر الخلاف على خلفية مطالبة أرينتش بالإفراج عن الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطية صلاح الدين دميرتاش والناشط ورجل الأعمال عثمان كافالا، وهو ما جلب للرجل حملة انتقادات واسعة من أردوغان وحليفه رئيس حزب الحركة القومية المتطرفة دولت باهجلي، وقد كان رد أردوغان على أرينتش بمثابة إهانة لرفيق الدرب، عندما قال (لا يمكن ربط تصريحات أحد بحزبنا وحكومتنا حتى لو كنا معا في السابق) في إشارة إلى التخلي بسهولة عن أرينتش، ولعل هذا ما يفسر قول الأخير سابقا (كنا نحن وأصبحنا أنا) في إشارة إلى تفرد أردوغان بكل شيء، حيث وصل الأمر إلى حد سجن أردوغان لصهر أرينتش بتهمة التبعية لجماعة غولن.
في الواقع، من الواضح أن الأردوغانية باتت تأكل أبناءها، إلى درجة أنها باتت تدفع بهؤلاء الأبناء إلى القفز من سفينة أردوغان التي تبدو وكأنها تتصدع في بحر متلاطم من الأعاصير العاتية، بفعل الربان الذي يفعل كل شيء من أجل سلطته وتفرده بها حتى النهاية، رغم كل مؤشرات التصدع والغرق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة