حين فرح النظام الإيراني بتوقيع الاتفاق النووي عام 2015، لم يكن فرحه نابعًا من كسر عزلته أو أي شي.
أثبتت أحداث التاريخ أن السلاح بالنسبة لإيران أهم بكثير من الغذاء والماء، وتلك طبيعة النظم السلطوية التوسعية التي يكون بقاؤها معتمدًا على ما تملكه من أسلحة وليس على ما تملكه من خبرات أو تقنيات وعوامل تحضر.
حين تمت محاصرة العراق في بداية التسعينات، كان المطلب الملح وقتها هو "النفط مقابل الغذاء"، وكثير من الدول تؤكد أن خطوط اهتمامها تقف عند بطون شعوبها خوفا من أن تجوع، ولكن هناك أنظمة يتخطى اهتمامها احتياجات شعوبها حتى لو جاعوا.
حين فرح النظام الإيراني بتوقيع الاتفاق النووي عام 2015، لم يكن فرحه نابعًا من كسر عزلته أو أي شي، لكن العارفين أكدوا مرارًا أن النظام فرح ببند واحد وهو رفع الحظر عن تصدير السلاح إلى إيران في أكتوبر 2020.
كل نظام يحتاج ما يجعله باقيًا، والفكرة الخمينية القديمة تستمد بقاءها من دماء المحيط الجغرافي والإقليمي، فلقد جرب الخميني في بداية عهد دولته وبعد الثورة بعام واحد 1980، حين اصطدمت توسعاته بنظام سياسي قوي وهو النظام العراقي وقتها، حينها تلاشت فكرة تصدير الثورة عبر التوسع في الجغرافيا، وفتح بلاد الجوار كما كان يسعى الخميني، مما جعله يلجأ إلى تغيير استراتيجيته ليكون التوسع فكريًا وعقليًا عبر ما استحدثه من التراث الشيعي، وهو "ولاية الفقيه" حين استغل الشيعة العرب تحت أفكار فقهية "لا ولاية لفقيهين في وقت واحد".
وعشنا ومازلنا أزمات انشقاق المجتمعات العربية التي نشر الخميني فيها أفكاره خصوصا "لبنان – العراق – اليمن" وغيرها.
ما كان للخميني ولمن جاء بعده أن يترجم أفكاره تلك إلا عبر السلاح، فلولا أن تحولت ولاية الفقيه من ولاية دينية إلى ولاية عسكرية؛ ما استطاع حسن نصرالله في لبنان ولا الحوثي في اليمن ولا مليشيات إيران في العراق فعل ما فعلوه.
فالأسطورة القديمة التي كانت تقول إن هناك مخلوقًا خرافيًا مخيفًا يتغذى على الدم نراها تتحقق تمامًا خلال الأربعين عاما التي مضت.
لم يشتك النظام الإيراني من ارتفاع معدلات الفقر في بلاده إلى مستويات مخيفة ولم يشتك من ارتفاع معدلات البطالة والانكماش وغيرها، وإنما اشتكى فقط من حظر توريد الأسلحة.
هي حكمة التاريخ التي تقول "إن الأنظمة المسالمة تهتم ببناء شعوبها واقتصادياتها، والأنظمة التوسعية الفاشية تهتم بتخزين أكبر قدر من الأسلحة وآلات الدمار".
وفي سبيل ذلك تصبح المبادئ والقيم التي لطالما تغنوا بها وهمًا وعبثًا، ويتبعون الغاية التي تبرر الوسيلة، وأعظم الأعداء يتحولون إلى أصدقاء، وإيران لها في ذلك تجارب وأحداث تثبت ما أقول.
حين نجحت الثورة الخمينية في 1979 رفع الخميني شعار "الموت لأمريكا وأمريكا هي الشيطان الأكبر"، أعلنوا وما زالوا يعلنون أنهم سيمسحون إسرائيل من على الخريطة، وفجأة وفي عز حرب الثماني سنوات مع العراق وتحديدًا في نوفمبر عام 1986، فاحت رائحة فضيحة كبرى وهي "إيران كونترا" أو "إيران جيت".
فضيحة هزت المجتمع الإيراني قبل أن تهز نظامه، حين أحدث لخبطة في ذهنية المواطن الإيراني "هل أمريكا عدو وشيطان أكبر؟"، كما يردد النظام في إعلامه وعلى منابره وعلى صحافته أم أمريكا صديقة؟ هل إسرائيل عدو يجب محوه من على الخريطة أم أنها صديقة؟
أسئلة فرضتها تفاصيل "إيران كونترا"، حين عرفوا أن رئيس إيران وقتها الحسن بني صدر، التقى في باريس مع مندوب الموساد الإسرائيلي إيلي بن ميناش، وبمباركة من الرئيس الأمريكي "ريجان" وقتها من أجل الحصول على صفقة صواريخ يحتاجونها في حربهم مع العراق. وأن الذي أوصل هذه الصواريخ إلى طهران وهي ما يقارب 200 صاروخ هو مندوب الموساد الإسرائيلي، وأن تلك الصواريخ وصلت إيران قادمة من إسرائيل.
كشفت تلك الصفقة قضية شديدة الأهمية عند النظام الإيراني، وهي أن المبادئ شيء والمصالح شيء آخر، وأن النظام طيلة الوقت يلعب لعبة المصالح.
وكثير من المتابعين للملف يؤكدون أن العلاقات الاسرائيلية-الإيرانية لم تتوقف وتحديدًا في زمن الرئيس باراك أوباما، الذي كان حلقة الوصل الدائمة التي حملت تطمينات الإيرانيين لإسرائيل، ولعل صفقة الاتفاق الإيراني النووي في 2015 في عهد أوباما كانت تمثيلًا حقيقًيا لما يمكن أن نسميه جزرة أوباما لإيران .
حين رفض مجلس الأمن المشروع الذي قدمته أمريكا لتمديد حظر السلاح إلى إيران، لا يعتبر هذا الرفض هو آخر المطاف، لأن بنود الاتفاق الإيراني النووي مع "فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، الصين وروسيا"، فيها ما يجعل الفرض قائمًا وضروريًا لإن إزالة الحظر مرهون بالتزام إيران وهو ما لم يتحقق، فالتجاوزات الإيرانية في المجال النووي كثيرة موثقة في تقارير الوكالة الدولة للطاقة النووية.
وثبوت نوعية الصواريخ والأسلحة الإيرانية في حروب اليمن مع الحوثيين أو في ضرب المنشآت النفطية السعودية "آرامكو"، أو حتى في تفجير ناقلات النفط الأربعة في الحدود المائية الإماراتية، كلها تثبت تجاوزات إيرانية كبيرة، أضف إلى ذلك خطف السفن من الممرات البحرية وغيرها.
وهنا أشير إلى هذا البند الموجود في الاتفاق النووي وهو: "تعد الالتزامات الملقاة على عاتق إيران إجبارية وانتهاكها يؤدي إلى فرض الجزاءات مجددًا. ويسري مبدأ فرض الجزاءات مجددًا على الجزاءات التي يفرضها مجلس الأمن والجزاءات التي يعتمدها الاتحاد الأوروبي. وإذا اعتبرت دولة من مجموعة الدول الأوروبية الثلاث +2 (أي روسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا متى كانت عضواً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة) أن إيران لم تف بالتزاماتها وأنها لم تقدم تفسيرًا موثوقًا به، فإنه يجوز لتلك الدولة أن تطالب مجلس الأمن بالتصويت على مشروع قرار يعيد تأكيد تفعيل الجزاءات التي تفرضها الأمم المتحدة، وتتوصل تلك الدولة إلى فرض الجزاءات على إيران مجددًا من خلال معارضة تمديد فترة رفع تلك الجزاءات".
وحظر تصدير الأسلحة إلى إيران واحد من هذه الجزاءات، بل أهمها، وبالتالي يحق للدول عدم رفع الجزاء إذا ثبت أن إيران لم تلتزم بذلك وهي لن تلتزم.
الشيء الأبرز والأهم في جعل فكرة استيراد إيران للسلاح صعبة هو لعبة المصالح، فالروس والصينيون وهما أبرز الجهات المرشحة لتوريد أسلحة إلى إيران لديهم مصالح وصفقات سرية مهمة ومعلقة مع الأمريكيين.
والأمريكون بدؤوا استئناف عملية "استانش" جديدة أي دبلوماسية الحشد، لمنع وصول السلاح إلى إيران وهي عملية قديمة، بدأها الأمريكون في 1983 حين أراد الرئيس ريجان خلق جبهة دولية لمنع وصول السلاح إلى طهران.
إن اهتمام دول الجوار الإيراني وهو المحيط العربي بحظر السلاح إلى إيران هو اهتمام نابع من تجربة مريرة، تجربة مصبوغة بالدم والتوتر وتآكل خرائط الأوطان، الكل يتساءل ماذا لو امتلكت إيران أسلحة متطورة أكثر مما تملكه؟ ستوجهها جميعها إلى صدورنا في العراق وفي لبنان وفي اليمن، لقد سقطت أوطان وضاعت أخرى وتمزق الباقي كله بفعل ما تملكه إيران من أسلحة، فماذا لو امتلكت ما هو أحدث وأكبر؟.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة