تمثال "نهضة مصر".. 100 عام من التاريخ والفن والريادة
محمود مختار أول تشكيلي مصري يرسخ اسمه في وجدان المصريين، شأنه شأن قاماتها الثقافية أمثال سيد درويش وطه حسين وتوفيق الحكيم وأم كلثوم
تحل هذا العام ذكرى مرور 100 عام على الكشف عن أول نموذج لتمثال "نهضة مصر" الشهير، الذي نحته المثال المصري الكبير الراحل محمود مختار.
يقف التمثال شامخا بالقرب من جامعة القاهرة، وفي قلب ميدان يحمل اسمه على مقربة من حديقة الحيوان بالجيزة، ويطل في اتجاه نهر النيل، حيث ينتهي جسر يربط بين ضفتي النهر بين القاهرة والجيزة.
وكان من المخطط أن تنظم وزارة الثقافة في مصر احتفالية بهذه المناسبة تعيد التذكير بقصة التمثال وصاحبه وعلاقته بالثورة الشعبية التي تفجرت في مارس 1919، لولا أن إجراءات الحكومة لتفادي آثار تفشي فيروس كورونا دفعت إلى تأجيل الاحتفال لوقت لم يتحدد.
ويرى مؤرخون أنه بالاضافة للقيمة الفنية للتمثال فإن قيمته الرمزية كبيرة، لكونه كان التعبير الأبلغ عن هوية مصر وطموحها عقب ثورة 1919، كما تجسد قصة بنائه تجربة فريدة من تجارب الاكتئاب الشعبي لإقامة تمثال، والتي ندر تكرارها بعد ذلك.
ولعل محمود مختار هو أول تشكيلي مصري يرسخ اسمه في وجدان المصريين، شأنه شأن قاماتها الثقافية التي لمع اسمها في سياق مشروع الثورة، منها سيد درويش وطه حسين وتوفيق الحكيم وأم كلثوم.
ويشير وزير الثقافة المصري السابق الدكتور عماد أبوغازي إلى أن النموذج الأول للتمثال عرضه محمود مختار في صالون الفنون بباريس قبل 100 عام، واستغرقت رحلة إقامته 8 سنوات، ما بين عرض نموذجه المصغر لأول مرة في مايو 1920 وحتى إزاحة الستار عنه في مايو 1928 بميدان باب الحديد (رمسيس) حاليا، قبل انتقاله إلى مقره الحالي عند جامعة القاهرة.
محمود مختار أبرز نحّاتي مصر في القرن العشرين، ينتمي إلى الجيل النهضوي الذي التحق بكلية الفنون الجميلة لدى تأسيسها في عام 1908، مع راغب عياد ومحمد حسن ويوسف كامل، ثم سافر إلى باريس حيث التحق بمدرسة الفنون الجميلة، وعُيِّن مديراً فنياً لمتحف غريفان الشهير وعاصر النحات الفرنسي الشهير رودان وتردد على مرسمه. وصنع في فرنسا مجموعة من التماثيل لمشاهير العصر في أوروبا والشرق، لكن غالبيتها دمرت خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه المنفيين وسفرهم مع باقي أعضاء الوفد إلى باريس كان مختار من بين الفنانين الذين انخرطوا في الثورة وتفاعلوا مع أحداثها.
ويكشف أبوغازي، وهو حفيد النحات محمود مختار في الوقت نفسه، إلى أن رحلة الثماني سنوات لإقامة التمثال شهدت معارك طويلة مع البيروقراطية التي أعاقت العمل في التمثال، ومع الساسة المؤيدين للملك فؤاد، الذي خاف من أن تؤدي ثورة 19 لخسارة مكانته السياسية.
ويرى أبوغازي أن التمثال اكتسب قيمة رمزية، لأنه كان أول تمثال ميدان ينحته مصري في العصر الحديث، ليرمز به لثورة الشعب، ويختار الفلاحة المصرية لتكون رمزا للنهضة، وكان هذا الاختيار في حد ذاته ثورة على قيم الدولة المصرية الحديثة التي أسسها محمد علي، والتي اقتصر جهدها في تشييد تماثيل الميادين على تمجيد أبناء هذه الأسرة وحلفائها من الأوربيين.
ويكشف كتاب الناقد بدر الدين أبوغازي عن محمود مختار الكثير من التفاصيل حول التمثال، الذي جاء أولا على هيئة رجل متوثب يرتدي ما يشبه العقال ويتأهب ليستل سيفه من غمده، لكن مختار تراجع عن الفكرة وحطم التمثال، ولم يتبق منه سوى صورة فوتوغرافية نشرها الناقد جبرائيل بقطر لأول مرة في الأربعينيات بعد رحيل مختار.
وظل الفنان يجرب أكثر من خيار إلى أن استقر على النموذج الحالي، ومنحه اسم "نهضة مصر" وجاء على هيئة فلاحة مصرية تستنهض "أبوالهول" من سباته العميق، ليربط بذلك بين نهضتنا المعاصرة وتراثنا المصري القديم، وعندما أكمله عرضه في عام 1920 في معرض الفنون الجميلة السنوي في باريس، ونال إعجاب المحكمين وحصل صاحبه على شهادة تقدير.
وذهب سعد زغلول ورفاقه لزيارة المعرض وشاهدوا التمثال المصري وأعجبوا به، وكتبوا إلى مصر يشجعون على إقامته في القاهرة، ووافق مجلس الوزراء في 25 يونيو 1921.
كما أسهم الشعب المصري في اكتتاب عام لإقامته، دعت إليه صحيفة الأخبار المصرية التي كان يرأسها الكاتب الصحفي الشهير وقتها أمين الرافعي، ثم أكملت الحكومة النفقات، وفي 20 مايو عام 1928 أقيمت حفلة كبرى في ميدان باب الحديد-(رمسيس حالياً) لإزاحة الستار عن التمثال، ثم نقل التمثال من مكانه الأول إلى ميدان جامعة القاهرة في عام 1955.
رسالة فقير
يكشف بدر الدين أبوغازي الوثائق التي رافقت رحلة تشييد التمثال، وأهم ما فيها رسالة الشحات إبراهيم الكيلاني الفاعل بسكك حديد الزقازيق وأرسلها لجريدة الأخبار التي تبنت في عشرينيات القرن الماضي حملة اكتتاب شعبي لإقامة تمثال نهضة مصر لرائد النحت المصري الحديث محمود مختار.
تقول الرسالة: "إنني رجل فقير جدا أشتغل بهندسة السكك الحديدية الأميرية بوظيفة فاعل ويوميتي 70 مليما. متزوج بيتيمة الأب وأم زوجتي تبيع ترمسا ولي شغف بقراءة الصحف من عهد النهضة المصرية الأخير ، بينما كنت جالسا أقرا جريدتكم الغراء بكيت بكاء شديدا، فسألتني زوجتي عن سبب بكائي، فأخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر ولم يكن معي نقود أتبرع بها خلاف 200 مليم، فقالت زوجتي إنها تتبرع بمائة مليم أيضا وقالت أمها مثلها وكذلك فعل أخوها وعمره 15 سنة، أما أختها البالغة من العمر 13 سنة فقالت إنها لا تملك إلا 50 مليما فتبرعت بها، ولي طفل عمره سنة ونصف كانت أمه وفرت له 50 مليما فأحضرتها فأصبح المجموع 600 مليم، أرجوكم أن تتقبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صندوق تمثال نهضة مصر وتتوسطوا في قبوله ونكون لكم من الشاكرين، هذا وإني أدعو جميع زملائي العمال للتبرع للتمثال".
وهناك رسالة أخرى من تلميذ في مدرسة خليل أغا الابتدائية اسمه مصطفى التميمي قال فيها:
"إن والدي يطلعني على ما كتب بجريدتكم بشأن نابغة مصر، وهو سيدي محمود مختار، لأعلم أن النبوغ أكثر ما يكون من الطبقات التي أنا منها فأبذل جهدي لأكون عظيما، وإن المدح الذي كنت أسمعه من والدي لهذا النابغة جعلني أحبه حبا لا مزيد عليه، واليوم علمت دعوتكم إلى الأمة المصرية لتكتتب بمبلغ يدفع ثمنا لتمثال نهضة مصر، الذي أجاد إتقانه سيدي مختار ويكون ذلك مكافأة لذلك النابغة وبرهانا على شعور الأمة الحي، وبما أني أرجو أن أكون رجلا حيا فقد أردت أن أفتتح حياتي بالاشتراك في هذا الاكتتاب المقدس بنصف ما أملك، وهو خمسة وعشرون قرشا، وأقسم بوطنية مختار، وإنه لقسم كما تعلمون عظيم، إني لو كنت أملك مئات الجنيهات لاكتتبت بنصفها ولكن ما باليد حيلة".
رسالة سعد زغلول إلى محمود مختار
من بين الوثائق التي حفظتها الأسرة في متحف مختار رسالة يعبر فيها سعد زغلول عن إعجابه بالتمثال، وبعث بها إلى مختار أشاد فيها بالعمل وبالمعنى الرمزي الذي يحمله، قال سعد في رسالته:
"شاهدت المثال الذي رمزت به لنهضة مصر فوجدت أبلغ رمز للحقيقة، وأنهض حجة على صحتها، فأهنئك على هذا الخيال الواسع وهذا الذوق السليم وهذا الفن الساحر، وأهنئ مصر بأنك من أبنائها العاملين على إعادة مجدها، وأرجو الله أن يعين هذه النهضة حتى تبلغ كمالها فتشفع مثال النهضة بمثال الاستقلال والسلام (سعد زغلول باريز 6 مايو سنة 1920)".
وعلى امتداد قرن كامل أصبح التمثال من أيقونات الذاكرة اليومية في مصر، وأصبح شعارا لعدد من الهيئات والشركات والمؤسسات وظهر على العملات الورقية وطوابع البريد في مناسبات مختلفة.
وساعد على تثبيته في الذاكرة موقعه الحالي القريب من أهم مؤسسة تعليمية في مصر، وإلى جوار أولى مؤسسات الترفيه التي يرتبط بها الأطفال وهي حديقة الحيوان بالجيزة ونهر النيل.