لن يختلف كثيرون على أهمية العراق في العالم العربي والشرق الأوسط عامة.
وأسباب ذلك كثيرة من العمق التاريخي والحضاري إلى الدور المعاصر وتكوينه الجيوسياسي وتأثيره في أحداث المنطقة بالثروة النفطية والقوة العسكرية. وخلال العقود الثلاث الأخيرة باتت المكانة العراقية متأثرة سلبا بتطورات أحداث قادت إلى عدد من صور عدم الاستقرار الإقليمي الناجم عن ثلاثة حروب، مع الولايات المتحدة (١٩٩١ و٢٠٠٣) وحرب كانت ضد الإرهاب، والتي انتهت بزوال "تنظيم داعش الإرهابي". ونجم عن هذه المسيرة أن العراق بات نافذة للتأثير السياسي السلبي لإيران على أمن المنطقة، بعد أن ورثت طهران عن التراجع الأمريكي نفوذا كبيرا عبر عن نفسه في حالة من التوغل الإقليمي للدولة الإيرانية معتمدة على جماعات مسلحة من الشيعة.
وفي الداخل العراقي ذاته لم تكن الأحوال أبدا على ما يرام، وفضلا عن حالة مزمنة من عدم الاستقرار القائم علي الانقسام العرقي والطائفي، فإن موجات الإرهاب ربما تراجعت حدتها خلال الفترة الأخيرة، ولكنها ظلت مؤثرة في كل الأوقات. والحقيقة أن التاريخ العراقي لم يكن رحيما كثيرا بالدولة العراقية ولا بالشعب العراقي، فقد حصل العراق على استقراره مبكرا نسبيا عن معظم البلدان العربية في ٣ أكتوبر ١٩٣٢ كملكية، ثم أصبح جمهورية في ١٤ يوليو ١٩٥٨، وأخيرا واعتبارا من ١٥ أكتوبر ٢٠٠٥ أصبح دولة منظمة في إطار دستور قام على المحاصصة الطائفية على "الطريقة اللبنانية".
وكان المشروع الأمريكي للحالة العراقية قائما على إقامة ديمقراطية يتم فيها انتقال السلطة من خلال الانتخابات؛ ولكنه في الواقع فإن الديمقراطية باتت قائمة على انتخابات لا يذهب فيها الناخبون لانتخاب مرشحيهم عبر الساحة الوطنية، وإنما لانتخاب حصة مذهبية.
الانتخابات الأخيرة التي جرت في العراق عكست عددا من المتغيرات الجديدة نسبيا، رغم أنها تمت تحت ذات الترتيبات القانونية التي جرت تحتها الانتخابات السابقة. أولا كانت الانتخابات الأولى بعد نشوب ما سمي بالحراك العراقي. وفي هذا الحراك برز التأكيد مرة أخرى على ثلاثة أمور: أولها أن الأمر الواقع لم يعد مقبولا. وثانيها أن حل المأزق السياسي للدولة لابد أن يتم في إطار الدولة الوطنية. وثالثها أن التدخل الخارجي الذي يعني في الحالة العراقية التدخل الإيراني هو أمر مرفوض. ورغم أن الانتخابات الأخيرة شهدت إقبالا أقل من الانتخابات السابقة، حيث بلغت نسبة المشاركة ٤١٪. الأهم من ذلك أنه رغم الغياب النسبي، إلا أن الانتخابات جرت بصفة عامة في أجواء هادئة؛ وجاء في التصويت رسالة مؤداها أن الجمهور العراقي بات متراجعا عن قبول التدخل الإيراني من ناحية، والمليشيات والأحزاب السياسية المعبرة عنها من ناحية أخرى. والواضح هو أن الساحة السياسية العراقية شهدت تعبيرا عن الحراك يمكن إسناده إلى عدد من العناصر، بعضها دولي والآخر إقليمي والثالث وربما كان أكثرها أهمية، يعود إلى الواقع الداخلي العراقي.
دوليا جرت تغييرات كثيرة في خريطة الشرق الأوسط، ليس بتغيير حدود الدول، وإنما بتحولات عميقة تعيد ترتيب المصالح السياسية وسقوفها. ولعل أكثر هذه التغيرات ظهوراً تلك الحالة من الانسحاب الذي أجرته الولايات المتحدة من أفغانستان، وما اتفقت عليه مع العراق بأن يكون انسحابها قبل نهاية العام، وما هو جائز الحدوث خلال نفس الفترة من انسحاب ما تبقى من قوات في سوريا. هذا التغيير الكبير ترك دول المنطقة وشعوبها في مواجهة اختبار كبير وصعب، وهو أنها لا يمكنها أن تلقي اللوم دائما على الولايات المتحدة وحلفائها، وإنما عليها أن تواجه واقعها القاسي والعنيف، أو أن تعيش تحت السقوف الحارقة لصراعات أبدية استحكمت وكان لها ثمنها الفادح خلال العقود الثلاثة الماضية. وإقليميا بدأ رد الفعل للخروج الأمريكي، قبل وقت من بدء الانسحاب الأمريكي، حيث كان وباء كورونا من زاويته يضع الشعب العراقي مع الشعب الإيراني في سلة المواجهة الداخلية لخطر بالغ، وفي حالة من الإرهاق الذي لم يعد ممكنا تجاوزه. وكانت النتيجة الإقليمية من خلال دخول المنطقة في حالة من التهدئة ووضع الأسس لنظام وأمن إقليمي يسعيان إلى تجنب صراعات كبرى في المنطقة، وإذا كان ذلك ممكناً، البحث عن حل لمشاكل مزمنة. وهذا ما تجدد مؤخراً في قمة بغداد الخاصة بأمن العراق. ومؤخرا فتحت الأبواب نحو إعادة استيعاب سوريا مرة أخرى إلى الإقليم العربي.
داخليا في العراق كان الحراك قد وضع الأساس وجاءت ترجمته من خلال قيادة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي اتبع سياسة حازمة في مواجهة الإرهاب والعنف، ومعها وضع تنمية العراق من خلال مشروع وطني مشترك لجميع العراقيين، أضاف له فتح قنوات التواصل التنموي مع كل من الأردن ومصر ومعها دول الخليج العربي. فتح العراق الباب على العالم والعربي ومعه جاءت الانتخابات لكي تقدم تصويتا إيجابيا على مسار الدولة الوطنية العراقية. مثل ذلك لا يعني نهاية المطاف فلا تزال الحالة العراقية منهكة، وهناك داخلها توجد أطراف لا ترغب في السلام الوطني، وكذلك فإن إيران متربصة. وعلى الجانب الآخر يوجد زخم نحو السلام الأهلي وهناك حاضنة عربية، والمنافسة بين هذا وذاك سوف تقرر مصير العراق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة